نظّمت الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، ندوة بعنوان "فكرة الدستور ومشكلة احتواء العنف في الفكر السياسي المعاصر"، من تنشيط الدكتورين الزبير عروس وعبد القادر بليمان، وهذا أوّل أمس بالمكتبة الوطنية الجزائرية بالحامة. وبهذه المناسبة، قال عروس (أستاذ علم اجتماع ومدير مخبر وباحث)، إنّ الديمقراطية لا تُبنى بدستور قوي، بل بالممارسات السياسية، مضيفا أنّ أهم حاجة في الدستور هي عملية الدسترة؛ أي بناء الدستور في حدّ ذاته، والذي قد يأخذ زمنا طويلا، كما أنّه من الضروري أثناء المناقشة، أن يتنازل الأطراف عن بعض أفكارهم للوصول إلى اتّفاق. وتناول المتحدث أنواع الدساتير، فقال إنّ هناك دساتير مرنة مثل دستور البرازيل الذي عُدّل 72 مرة منذ سنة 1982، وكذا الدساتير المغلقة مثل دستور البوسنة، الذي لا تعدَّل مواده، وأخيرا الدساتير شبه المرنة مثل دستور إسبانيا، الذي تعدَّل بعض مواده المرتبطة بالتغيرات الحاصلة في المجتمع، ولا تعدَّل مواد أخرى مثل تلك المتعلقة بالتقسيم الإداري. وانتقل المحاضر إلى مسألة حقوق الإنسان التي قال عن جانبها المادي، بأنّه سهل التجسيد ولا يثير الكثير من المشاكل عكس جانبها المعنوي، الذي يتفرع إلى رأيين، الأوّل يدّعي أنّ حقوق الإنسان عالمية بما أنّ الإنسان مطلق، وهو نفسه في كل مكان، بينما يبدي الرأي الآخر عكس ذلك؛ حيث يهتم بخصوصيات كلّ بلد، وبالتالي لا يمكن تطبيق مبادئ حقوق الإنسان بكاملها. وتحدّث الدكتور عن المدارس الأكاديمية التي تهتم بنسبية حقوق الإنسان، مشيرا إلى أنّها تتفرّع إلى عدة اتجاهات، أولها سياسية من خلال دول "العالم الثالث"، التي لا تؤمن بعالمية حقوق الإنسان؛ باعتبار أنّها لم تشارك في تأسيس مبادئ هذه الحقوق، وثانيها الأنثروبولوجية التي تؤكّد أحقية الشعوب المعزولة في تقديم رأيها حول الموضوع. وتطرّق المحاضر لبعض الدساتير التي تطبّق مبدأ نسبية حقوق الإنسان، مثل دستور الهند، الذي يهتم بخصوصية أن تستمد كلّ منطقة قوانينها من ثقافتها المحلية، وهو ما أثّر سلبا على حقوق المرأة. أمّا دستور النرويج فرغم أنّ إحدى مواده تنصّ على أنّ الملك يجب أن يكون كالفينيا (الديانة الكالفينية)، إلاّ أنّه يطبّق القوانين على الجميع بدون تمييز، في حين تسببت إشارة دستور البرازيل إلى كاثوليكية الشعب البرازيلي مشكلة كبيرة بالنسبة للشعوب الأصلية للبلد. وأشار عروس إلى أنّ الدستور العربي الوحيد الذي لم يتطرّق للهوية الدينية للبلد، هو دستور سوريا سنة 1973، مما أحدث ضجة كبيرة انتقلت إلى دستور مصر سنة 2012، الذي وضع مادة عن الشريعة الإسلامية، وهو ما أثار حفيظة الأقباط والأقليات الأخرى، لينتقل إلى الدستور التونسي؛ حيث نوّه بجهود الأطراف المتنافرة والأحزاب المختلفة لبلورة الدستور، وهذا طيلة ثلاث سنوات من العمل المضني. من جهته، أكّد الدكتور عبد القادر بليمان (أستاذ الفلسفة السياسية)، أنّ الدساتير نتاج فلسفات، وتأسيسها يجب أن يأتي على الحق أو على القانون حتى ينتج سياسة واضحة لضمان السلم واحتواء العنف، فيكون الدستور عبارة عن ممارسة الإكراه الإنساني بتكفّل من الدولة. وعاد الدكتور إلى فلسفة العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، التي تنص على الحقوق الطبيعية للإنسان مثل حقوق التفكير والاعتقاد والأمن والاتصال، وهي حقوق أزلية يتمتّع بها الإنسان في كلّ زمان ومكان، وهي الفلسفة التي أثرت في عهد الإقطاعيين والنظام الملكي، وحفّزت المظلومين على القيام بثورة ضدّ الاستبداد. وأضاف المحاضر أنّ هذه الفلسفة تقول بأنّ النخبة السياسية لا يجب أن تتعارض مع إرادة الإنسان، أو أن تسلبه حقوقه وإلا تعرّضت للزوال، وقد أثرت على الدستورين الأمريكي لسنة 1775، والفرنسي لسنة 1789، ليتساءل الدكتور عن هدف هذه الفلسفة الذي يتأرجح بين السلم حينما يصبو إلى التأكيد على حقوق الإنسان الطبيعية، وبين العنف حينما يدعو إلى الثورة ضد من يضطهد هذه الحقوق. واعتبر الدكتور أنّ هذه الفلسفة أوصلت الدول المعتمدة عليها إلى النظام الليبيرالي، وظهر بالمقابل النظام الاشتراكي، الذي اتّخذ فلسفة مغايرة تهتم بحقوق الإنسان الاجتماعية وتجهل أو حتى تقصّي حقوقه التصويرية، لتفشل هي الأخرى وتظهر فلسفة ثالثة، حاولت عن طريق مفكرها الأمريكي رولز، إيجاد الحل الوسط؛ حيث عادت إلى قوانين الإنسان الطبيعية، وفي نفس الوقت أكّدت على الاختلاف الإيجابي بين الناس.