أي مصير ينتظر ليبيا؟ هذا السؤال سبق وأن طُرح ولكنه فرض نفسه اليوم، وقد انقسم نواب البرلمان الليبي الجديد حول أنفسهم بخصوص مكان عقد أول جلسة لهم بمدينة طبرق، الواقعة على بعد 1500 كلم إلى شرق العاصمة طرابلس. فبينما التقى نواب التشكيلات المحسوبة على التيار الليبرالي الوطني بمدينة طبرق، فضّل النواب الإسلاميون مقاطعتها، وأصروا على موقفهم المبدئي بعقد هذه الجلسة بالعاصمة طرابلس. وإذا كان النواب الليبراليون برروا اختيارهم لمدينة طبرق بالأمن الذي تنعم به مقارنة بالعاصمة طرابلس، فنظراؤهم الإسلاميون طعنوا في الإجراءات الشكلية لعقد هذه الجلسة، عندما شكّكوا في أحقية النائب أبوبكر بعيرة الذي ترأّس الجلسة؛ بصفته أكبر نائب في البرلمان، بتوجيه الدعوة للنواب للحضور، وأكدوا أن هذا الحق يعود إلى رئيس المؤتمر الوطني المنتهية عهدته نوري أبوسهمين المحسوب على الإسلاميين، وجعلهم ذلك يؤكدون أن جلسة طبرق غير دستورية وقاطعوها. وفي انقسام واضح للهيئة البرلمانية، دعا أبوسهمين من جهته، النواب إلى عقد جلسة بالعاصمة طرابلس، بالتزامن مع عقد جلسة مدينة طبرق؛ بهدف تسليم المهام للبرلمان الجديد"، ولكنها لم تنعقد في النهاية، واعتبر ذلك بمثابة ضربة قوية للتيارات الإسلامية، التي خسرت الانتخابات العامة يوم 25 جوان الماضي. وهو ما أعطى مصداقية أكبر لجلسة مدينة طبرق بعد أن حضرها 160 نائبا من مجموع 180 نائبا التي يتشكل منها البرلمان الليبي الجديد، وحظيت أيضا بتأييد دولي وإقليمي بعد أن حضرها ممثل عن الجامعة العربية وآخر عن الأممالمتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الإفريقي. وأدى نواب برلمان طبرق اليمين الدستورية قبل تعليق أشغال جلسة الافتتاح إلى غاية ساعة متأخرة من مساء أمس، خُصصت لانتخاب رئيس للهيئة النيابية الجديدة ونوابه. وفي كلمة مقتضبة دعا أبوبكر بعيرة الذي ترأّس الأشغال، "أولئك الذين يحملون السلاح إلى التعقل وانتهاج لغة الحوار، داعيا في نفس الوقت المجموعة الدولية إلى التدخل من أجل وقف المعارك الضارية، الدائرة رحاها في العاصمة طرابلس وبنغازي. وفي حال تكرست الازدواجية البرلمانية في ليبيا، فإن ذلك سيكون له تأثيرات عكسية على المجتمع الليبي، الذي علّق آمالا كبيرة على أول جلسة؛ علّها تكون بادرة للخروج من عنق زجاجة الخلافات السياسية التي تطبع المشهد السياسي الليبي منذ عدة أشهر، وأول خطوة على طريق إعادة بناء هيئات الدولة الليبية المنهارة ثلاث سنوات بعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي. وراح البرلمان الليبي ضحية تجاذبات سياسية أصبحت تهدد تجانس المجتمع الليبي والوحدة الترابية لهذا البلد، بعد أن غذّت بذور انقسام البلد بين صراعات طائفية وعرقية وحتى عقائدية. ولم تكن المواجهات التي تشهدها عاصمة البلاد طرابلس والمعارك الطاحنة المتواصلة بمدينة بنغازي ثاني أكبر مدن البلاد، إلا صورة مصغرة لكارثية الوضع العام في ليبيا، التي لم تتمكن هيئاتها الرسمية من وضعها على سكة الانطلاق بعد ثورة السابع عشر فيفري 2011، التي تحولت نتائجها إلى كابوس أرق يوميات الليبيين في كل مناطق البلاد. ولذلك فإن تمكن نواب المؤتمر الوطني الليبي من عقد أول جلسة لهيئتهم أمس، يُعد في حد ذاته بمثابة اختراق سياسي، قد يمهّد لتحقيق خطوات سياسية قادمة على طريق بناء مؤسسات الدولة الليبية. ويُنتظر أن يتم انتخاب رئيس حكومة يقوم بتشكيل حكومة توافق وطنية، تتماشى مع الوضع العام، وتأخذ بعين الاعتبار التوازنات السياسية التي انبثقت عن ثورة فيفري، والتي سمحت بظهور الكثير من التيارات والأحزاب والقوى السياسية في بلد حُكم بإرادة شخص واحد طيلة أربعة عقود. وتبقى الخطوة الأكثر أهمية التي تنتظر النواب الجدد دون شك، إيجاد آلية لإنهاء فوضى السلاح التي تعم البلاد، وتجريد المليشيات المسلحة من ترساناتها، التي حولت ليبيا إلى مناطق نفوذ؛ تحسبا لأية ترتيبات سياسية لا يريد أي فصيل التفريط في مواقعه، وهو ما زاد في حالة الاحتقان العام، وأجّج المواقف التي بلغت حد الاقتتال الدامي. وتكمن حقيقة المأزق الليبي في غياب جهة فاعلة تحظى بالإجماع، ولها القدرة على فرض حلول يقبلها الجميع؛ فلا الجيش الليبي حافظ على قواته لردع كل من يهدد الأمن العام، ولا الحكومة تمكنت من إقناع الأحزاب والتشكيلات السياسية وحتى المسلحة من الامتثال لسلطتها، ولا البرلمان تمكن هو الآخر من وضع تشريعات وقوانين يخضع لها الجميع، ولم تبق كلمة الحسم إلا لقوة السلاح في حسم الخلافات.