نظرا لأهمية هذه الدراسة التي عنونها الدكتور صالح بلعيد، أستاذ جامعي بجامعة تيزي وزو "الأداء المسقاع في لغة المذياع"، ها نحن نقدم للقراء الحلقة الثانية من هذه الدراسة... تحديد معنى الأداء: إنه تحديد للعنوان، والذي قد يتجه فيه مفهوم الأداء إلى مراعاة التلوين الصوتي للكلام من نبر وتنغيم وفواصل صوتية، أو ما يتعلق بالقراءة والإلقاء وصياغة الأخبار، وكتابة الافتتاحيات وإجراء التحقيقات فقط "وقد يظن بعضهم أن الإنسان يستطيع أن يجيد لغته دون أن يولي كبير اهتمام بأصواتها، وهذا تصور خاطئ، إذ إن للأصوات قواعدها وكيفيات أدائها، شأن ذلك شأن قواعد الصرف والنحو وغيرها من المستويات اللغوية، صحيح فإن المذكور هو الجزء القاعدي للإيصال والاتصال، إضافة إلى التلاوة والإتقان، لأن السامع يعتمد على صوت المذيع وسلاسته وحزمه ووقعه وليونته، فأداء المعنى في الإلقاء يثير حفيظة الذمستمع بقوة، لكن مفهوم الأداء يعني في ما يعنيه حسن التأدية، وفن الإلقاء والإجادة، وكذلك الإتيان بالكلام الصحيح المقبول في بنائه وطلاقه ووفق المنوال اللغوي المقتضى معرفة ودراية وخبرة في اختيار المناسب من وسائل الأداء، كما يمس الأداء قضايا أخرى ذات علاقة بأمور لغوية وعلمية ونفسية، إلى جانب مراعاة حسن استعمال علامات الترقيم، وتوظيفها توظيفا يفي بغرضها، فالأداء ينبئ عن العلامة الموظفة، وعن طريقها يتم تلوين العبارات من حيث: - تحديد مواضع الوقت. - الفصل بين أجزاء الكلام. - التعبير عن انفعال أو ابتهاج أو دهشة أو اكتئاب. - التفصيل في الأمر العام. - توضيح المبهم. - التمثيل لحكم مطلق. - بيان وجوه العلاقات بين الجمل... وكل ذلك يساعد على فهم المعنى، وتصور الأفكار. وفي المعنى اللغوي نجد كلمة أدّى: من الفعل أدى. أخذ للحرب عداته حتى قهر عِداته. وفلان مؤد على هذا الأمر أي قويٌّ عليه. من قولهم شاكٍ مؤدٍ للكامل الأداة. وهو اَدى للأمانة منك. أدّى أدياً: قضاه، أدّى تأدية: قضاه. يقال: أدّى ما عليه من دين، وأدّى واجب الاحترام، تأدّى: له من حقّه: قضاه له. الأداء: القضاء. آدى إيداء أداه عليه: أعانه// تهيّأ// قوي. استأدى: آخر عليه: إستعان به عليه// واستأدى فلانا المال: أخذه منه// واستأدى عليه: استعدى. وعلى العموم فإن كلمة أدى وأداه أديا بمعنى قضاه، وأدى الشيء بمعنى قام به. تأدى الأمر بمعنى أنجز. الأداء هو الإنجاز. والأداء اللغوي هو الإنجاز في ضوء ما هو مرسوم له في قواعد اللغة. ومن هنا فإن الأداء يعني: الإنجاز ضمن منظومة اللغة التي تشمل الكتابة والأصوات وعلامات الوقف والتركيب والدلالة، باعتبار اللغة وسيلتها الاتصال هي اللغة الصوتية. وقد أجمع الباحث محمود السيد الأهداف المرسومة للأداء اللغوي في النظام الدراسي في ما يلي: 1 أن يكتسب المتعلم مهارات استعمال اللغة العربية استعمالا ناجحا في الاتصال بغيره محادثة وكتابة وقراءة واستماعا. 2 أن يكتسب مهارات القراءة الجهرية تعرّفا للحروف والكلمات والنطق بها صحيحة، وتأدية للمعنى أداء حسنا وتفاعلا مع المقروء. 3 أن يكتسب مهارات القراءة الصامتة فهما واستنتاجا وتمييزا وتحليلا وتلخيصا وموازنة ونقدا وتقويما. 4 أن يكتسب مهارات الاستماع فهما دقيقا لما يقال، واستنتاجا لما يود المتحدث قوله، وما يهدف إليه، وتحليلا لكلامه، وتلخيصا لفكره، ونقدا لها. 5 أن يكتسب مهارات التعبير الوظيفي لقضاء حاجاته وتنفيذ متطلباته في تفاعله مع المجتمع الذي يحيا فيه من كتابة رسائل وإعداد محاضر جلسات وكتابة مذكرات وإلقاء كلمات في المناسبات... إضافة إلى مهارات التعبير عن النفس، وما يقع تحت الحس كلاما وكتابة في أسلوب واضح سليم. 6 أن يكتب كتابة صحية بأسلوب سليم خال من الأخطاء الإملائية والنحوية. 7 أن يعبّر شفاهيا عن فكره وحاجاته واهتماماته ورغباته وميوله تعبيرا سليما خاليا من الأخطاء. 8 أن يكتسب مهارات التذوق الأدبي وإدراك الجمال والتناسق في النصوص الأدبية التي يتفاعل معها. 9 أن يكتسب عادة الإقبال على القراءة الحرة بشغف ومحبة حتى يغدو الكتاب صديقه الذي لا يملّ مصاحبته. 10 أن يكتسب عادة البحث عن الكلمات والتفتيش عنها في المعاجم والموسوعات بحثا عن معانيها واستعمالاتها الحرفية والمجازية والاصطلاحية. 11 أن يوظف ما يحصل عليه ويكتسبه من مفردات وتراكيب وفكر وقيم واتجاهات وصرور وأخيلة من قراءاته في مواقف التعبير الشفاهي والكتابي. وإذا نظرنا إلى هذه المحددات الدقيقة لمفهوم الأداء عند تلاميذ الطور الإعدادي والثانوي، فماذا نقول عن لغة المذيع الذي سبق له أن ألم بهذه المعطيات، وكان تلميذا ذات وقت، فهلا اختمرت هذه الأفكار في ذهنه، أليست هذه الأشياء من ذاته، ألم تصبح من زاده اليومي؟ ومن هنا فإن الأداء عام؛ يتعلق بالاستعمال الجيد للغة، فالأداء يتناول قضية التعبير بلغة واحدة عما يجول في النفس، وفي العجز عن إقامة اعوجاج اللسان في الأداء الصوتي، ومراعاة مخارج الحروف وإعطائها حقها من الصفات، وفي الغلط اللغوي والخطأ الإملائي، وفي عدم وضع المعاني الدقيقة للمسميات في مواضعها الموافقة لسياق النّص، وفي تخيّر الأسلوب الملائم للموضوع العلمي أو الأدبي أو الفكر الخلص. كما أن الأداء ليس هبة من الله، بل صناعة وفنّ يقوم على التجريب والدربة والخبرة، الإلقاء الجيد يحتاج بالإضافة الى المعرفة الكافية باللغة ومبادئ الأداء الصحيح إلى عوامل متداخلة متشابكة تقود إلى توصيل الرسالة وشد انتباه المتلقين وتحصيل الفائدة والمتعة أيضا. ونرى بأن الأداء ليس خاصا بأداء الصوت وفن الإلقاء، وليس متعلقا بحضور البديهة وفن الانتقال من مقام إلى مقام، بل إن الأداء أعم؛ حيث يشمل الصوت، وفن احترام قواعد اللغة، وحسن التصرّف، ومعرفة التفريق بين المقامات والأحاديث، وإدراك مفردات الموضوعات حسب الاختصاصات، وحسن صياغتها، والانتقال بها من حال إلى حال. وكلمة المسقاع تعني: إصابة الهدف حيث يجب أن يصاب، وإدراك المفاصل اللغوية في معناها الحقيقي أو المجازي، وكذا نسج الكلام لمقتضى كل الأحوال، وجعله يشاكل بعضه البعض؛ ليخرج وحدة واحدة لا تتمايز فيها الأشياء إلا بما تضفيه من جمال. فالسقع هو القطع، فالكلمة مثل الرصاصة يجب أن تخرج لإصابة الهدف، فهي لا تعود إلى موقعها أبدا، وكان على قائلها أن يحدد موطن الإصابة قبل إطلاقها. وإن الأداء اللغوي المطلوب من رجل الإعلام هو : اكتساب مهارة القراءة الجهرية بنطق الكلمات نطقا صحيحا، وتأدية للمعنى أداء حسنا. اكتساب مهارات التعبير لقضاء حاجاته اللغوية، وتنفيذ متطلباته في تفاعله مع المجتمع. استعمال اللغة استعمالا ناجحا في الاتصال بغيره محادثة وكتابة وقراءة واستماعا. استعمال الكتابة الصحيحة بأسلوب سليم خالٍ من الأخطاء الإملائية والنحوية. توظيف ما يحصل عليه ويكتسبه من مفردات وتراكيب وفكر وقيم في مواقف التعبير الشفاهي والكتابي. الانتقال الانسيابي من مقام إلى مقام، دون تعسف يخدش السامع ولا يلوي أعناق قواعد اللغة. نعرف أن الاستعمال اللغوي الجيد في البرامج الإذاعية أو في غيرها مما يقدم في المسموع له تأشير في آذان السامعين، وفي التقاط الأداء المريح، وبالصوت الجميل الذي وقع وأيّ وقع؛ عندما يحيي المناويل الجيدة، ويبني مناويل معاصرة، فإن أحسن نقطه، ووضع ضمن أعشاشه، وأحسن أداؤه ورُوعي فيه المقام والحال، كان الأداء ممتازا، وصل إلى الأذن دقيقا، وإلى القلب محبوبا، ولكن إذا لم يكن ذلك كذلك؛ فإنه يعدّ من الكلام المحال، فهو مردود، وسماعه مرفوض. كما نعلم أن للإذاعة والمذيعين رغبة صادقة في استعمال الفصاحة والقول المسقع الجميل، ومن هنا نرى الإذاعات الوطنية والمحليات تعمل على ترقية استعمال أساليب عربية جديدة، وفي نياتها العمل على توسيع اللغة المسموعة في الحياة اليومية، إلى جانب الاستعمالات المعاصرة التي أجازها وسنّها مجمع اللغة العربية بالقاهرة من خلال مسموع لغة الصحافة بشكل عام، فمن الجدارة أن نبارك المناويل الجيّدة التي تأتي عن طريق الإعلام، وخاصة عندما تكون في خدمة توسّع اللغة العربية وتحترم خصائصها، وهنا تأتي قمة الإبداع؛ باعتبار اللغة يصنعها اللغويون، ويفعّلها المبدعون، ويبدع فيها النثّار والنُّظام والصحافيون. وإن الأهمّ في كل ذلك بالنسبة لرجل الإعلام أن يبذل جهدا في التحرير والمراجعة، وفي وضع المفردات والجمل في النص وضعاً حسناً، موافقا للمنوال القديم الفصيح، وما اقتضاه الحال والمقام وفق قواعد اللغة التي هي العُمْدة والعَمَد. وهنا لبّ الأمر؛ إذا يلقى على كاهل المذيع، ومحرر النشرة، وكاتب تعليق، وقارئ حديث، ومؤلف قصة، ومنتج مسرحية، ومعد برنامج، وما يلحق بهذه الفئة الإعلامية أن يدقفوا في ما يصنعونه من أداء، ومن لغة جديدة تواتي القديم، وما ينسجونه من ألفاظ جذابة غير مخالفة في قياسها للنمط العربي الأصيل، ووفق مقتضيات اللغة ومجرياتها من حيث نحوها وصرفها وبلاغتها... ولكن قد لا تسلم الجرّة في كلّ مرة، فقد نجد أحياناً بعض ما يخرق القاعدة، ولا يضيف لها إلا سوءا، وهنا تعكس العملية، وقد تكون حسنُ النيّة سببَ المشكلة. كثيرا ما نسمع من إذاعاتنا شيوع الأخطاء اللغوية، واستعمال العامية، وعدم نطق أصوات الحروف العربية نطقاً سليماً، إلى جانب عدم مراعاة دقائق هذه اللغة الخاصة التي ما منحت إلاّ للعرب الذين خصهم الله بها تكريماً لهم وتمييزاً، علماً أن العرب ينظرون إلى الغلط على أنه أقبح من اللحن في الأعراب، وإنه ليخطر ببالي بعض الاضطراب لِما أَسْمَع في إِذاعاتنا بعض الغلط والعوج والفقر اللغوي الصارخ، وفداحة الأخطاء، فأعود لمراجعة نفسي وأقول: أنا المخطئ، فأراجع الأمر حتى أستبين الصوابَ، ويتكشف الأمر عن الخطأ المسموع، وأحاول أن أجد العذر لصاحبه. وهنا أرى أن الصحافي المذيع ما كان عليه أن يركب رأسه، فلايكون له رأي يخالف الصواب من أجل المخالفة ولكن رأيت أن بعض الأمور من الزلاّت المغفورة التي تحتاج إلى تنبيه فقط، وأقول : إن هذه الأمور من الأشياء التي يمكن أن تُسدّ إذا وقع الاهتمام باللغة العربية؛ فإن اللغات في عمومها لا تكتسب بالسهولة، وخاصة اللغة العربية التي هي لغة ثانية بالنسبة لبعض الصحافيين، أضف إلى ذلك مشكلة ضعف الملكة اللغوية الطبيعية والمكتسبة لرجال الإعلام والتي تعود إلى مكامن كثيرة، وتبقى جذور المشكلة عائدة إلى عدم تكوين المهارات اللغوية: من محادثة واستماع وقراءة وممارسة، ويمسّ ذلك العائلة والوسط والمدرسة والجامعة، فيظل غياب الترسيخ اللغوي الآتي من عدم الممارسة والتكرار بفهم، وإلى سوء إدراك العلاقات والنتائج في نَظْم أنسجة الجمل في مرحلة التلقين المدرسي، ويضاف إلى ذلك غياب الحمام اللغوي السليم، وعدم الممارسة والاحتكاك للأنماط الجيّدة وعدم مسايرة الجديد... كلّ ذلك يعمل على عدم إكساب المهارات اللغوية، علما أن قنوات اكتسابها متعدّدة. ولها قوائم أساسية تحتاج إلى حفظها والدوام عليها، وبات حرياً على رجل الإعلام أن يرسّخ تلك الأنماط عن طريق السماع والإسماع، وعن طريق المداومة على كثرة القراءة، وطلب التسآل، ونشدان البحث في المظان.