نظرا لأهمية هذه الدراسة التي عنونها الدكتور صالح بلعيد استاذ بجامعة تيزي وزو ب"الأداء المسقاع في لغة المذياع"، ارتأينا أن نقدم هذه الدراسة على حلقات من أجل تعميم الفائدة وفي هذه الحلقة يبحث الدكتور في وظيفة الأداء صوتا ولغة. من أجل معالجة ظاهرة الأداء اللغوي السليم لقنواتنا، وقد يفتح الباب للنظر في الموضوع من الباب الكبير، ونحسس عن طريقه رجال الإعلام بأهمية الموضوع، وخطورته في ذات الوقت، بأن اللغة العربية تحتاج الى أداء متمرس، وإلى أذن تسمو بذلك الأداء، وترفع من شأنه ولا ترده إلى متلاغيه، ومن هنا تحصل ضرورة الاهتمام بلغة الاعلامي المذيع ،باعتبارها الخطوة الأصيلة للتحسين اللغوي في كل جوانبها وهذا مدعاة للمذيعيين للاحتياط بقوة في لاحق من التعليقات والبرامج التي تذاع، ويجب أن تكون محل اهتمام وتحرج وتحرز، وعن طريق هذا اللقاء كذلك يمكن رصد وضع اللغة العربية في وسائل الاعلام الجزائرية ا لمسموعة منها، باعتبار أداء الإذاعة يجلب النخبة والعوام، وله أتباع ومناصرون له جمهور يتابعه عبر الأذن التي ترنو إلى مسقع الكلام وتهفو إليه، وتأنف مما يخدش السمع ويزهد في السماع. إن الإذاعة تخاطب الناس كافة، تخاطب فيهم العقل والوجدان، وتحرك عواطفهم وتقع موقعا بين وسائل الإعلام في مجال التثقيف والإرشاد والتوجيه، كما تخاطب المثقفين وانصاف المثقفين ونحوهم ممن منحوا نعمة القراءة، ومن هنا فمن الحتم علينا كباحثين لغويين ان نستكشف أسباب النقائص في لغة المذيعيين فنعمل على التنبيه لها، ومكامن المحاسن فنعمل على التنويه بها وتعميمها، وهذا في إطار كيفية الاهتمام بتوصيل المعرفة اللغوية السليمة البسيطة أو في تقدمي الأخبار أو في الحوارات اداء حسنا، أو في تقديم عمود يومي أوأسبوعي بلغة مقبولة، وفي تقديم كافة البرامج الإذاعية على أحسن ما يجب أن يقال، باستعمال لغة التوصيل المتفق عليها، وحتم علينا كذلك أن نعمل على تحسين الأداء الإعلامي المسموع، والعمل على ترقية اللغة العربية التي تحتاج منا إلى وقفات اعتبارية في لغة الاعلام، نظرا لما يشكله الإعلام من تأثير وتأثر في الترقية اللغوية، لأن أمر الإعلام عندما لا يسند الى غير أهله تكون مضاره أكثر من منافعه، وقد يهدم وبسهولة ما تبنيه المدرسة على مدى السنوات الطوال، "وصرنا نلمس في غير ما قطر عربي ضعف بعض المذيعين في ثقافتهم عامة وفي لغتهم العربية خاصة فصارت بعض الأحيان أداة هدامة تهدم كل ماتعب في بنائه مدرسو اللغة وطفقت الدول تنفق على الإذاعات عشرات الملايين لهدم ما انفقت في بناه ما الملايين، وينبغي مكافحة هذا الوباء في الصحافة والإذاعة وسائرأجهزة الإعلام". وما يمكن من تعليق على هذه الظاهرة أن أمر وسائل الإعلام يشكل خطورة كبرى إذا ما لم يوجه توجيها فعالا لخدمة الغرض المرسوم من خدمة قضايا القوم، واللغة قضية الجميع، قد عهدنا الشعوب المتقدمة أنها تولي الإعلام وجهة مركزية في السياسة اللغوية للبلد. 3- جذور معيقات الأداء المسقاع إن جدورالقضية في الحقيقة تعود إلى مدرس اللغة العربية الذي هو رجل منحوس بفعل سوء التوجيه الذي لقيه في المراحل السابقة، فنعلم أن توجيه النجيبين إلى العلوم، وغير النجيبين إلى أقسام الآداب، وكليات الحقوق، وكليات الإعلام، ومن يتوجه لهذه الأخيرة هم الحاصلون على معدل مقبول، فأنّى للعربية أن تستقيم في ظل واقع أعوج، واقع لغوي مهترئ واقع يشكل علاقة تأثير وتأثر على جميع الصعد، ومن هنا فإنه كلما حدث خلل في منظومة ما يحدث خلل في المنظومات الأخرى، ولذا فإن الجذر تشعب، وامتدت عوامل أخرى لتزيد المشكل تعقيدا ومن أهمها: الواقع اللغوي يملي علينا إكراهات الثنائية الإزدواجية غياب الحوافز على إتقان العربية غياب تحصيل تراثنا: القرآن والشعر والحديث والحفظ غياب الإحساس العام والتقزز من الخطأ، حتى أصبح الخطأ هو القاعدة، فممن لم يحدث الخطأ لا يعرف اللغة عدم النظر إلى اللغة على أنها بنية محكمة تجمع بين المعنى المبنى وبين المعنى والأداء، بين النحو والبلاغة فالكل متكامل يتمثل في وجهي ورقة واحدة غياب الدراسات المتكاملة التي تلمس جذور المشكلة وتستخلص الحلول لها استفحال ظاهرة الأخطاء الشائعة طغيان العامية بشكل مثير للإعجاب وإذا كانت هذه الأمور من المثبطات التي تعمل على إحداث الفجوات في التأدية الجيدة للغة، فمن المنتظر أن يكون لها بالغ التأثير في العقول، وحسبي في هذه النقط الوقوف عند أمراض النحو وبالخصوص ما يشتكي منها الإعلاميون والمرسومة بالأخطاء الشائعة، وهي كثيرة لا نستطيع أن نأتي عليها وما يصاحب ذلك من العاميات التي تزاحم الأداء اللغوي الحسن للفصحى، إذ نجد أن أعلى نسب للعامية في برامج الأطفال وبرامج الأسرة ونقل المباريات والتحقيقات والمسلسلات والأغاني وإنها لبدعة عجيبة تلك التي سرت في الزمن الأخير، وتعلق بها بعض الناس وبعض من المخدوعين وهم ليسوا على دراية مما يدعون، أليس تغليب لغة الجهل كارثة علينا؟ وما الفائدة إذا ما محو الأمية إذا كانت العامية تسد مسد الفصحى؟ ولماذاتخسر الدول العربية كلها أموالا كبيرة من ميزانياتها السنوية من أجل تعليم الفصحى؟ 4- مواصفات لغة المذيع: لا أعني بأن للمذيع لغة خاصة، أوله لغة تبتعد كما يقال عن لغة سيبويه بل يفترض أن تكون للغته مواصفات تعرف من خلال أنساقها أنها لغة الصحافة، من مثل اعتماد الجمل القصيرة الأنيقة في كتابة الأخبار، صياغة الخبر في شكل حوار، استعمال المختصرات والرموز، توظيف بعض الألفاظ الأجنبية، البساطة والتخلص من التعقيد، اعتماد ايجازالفصل بين المتضايفين، تتابع الإضافات، اتجاه لغة الإذاعة أحيانا إلى التراكيب التي تحتمل أكثر من معنى لتصل بها إلى لبس أو تعمية، فقولها: أنا أحق بالإنصاف، فهل المقصود أن تنصف أوأن تنصف، ولكن في ذات الوقت لا يجب أن نسمع بداية الكلام بالإسم، وهو ينقل خبرا ابتدائيا، كما لا يجب أن يبدأ بالفعل وهو ينقل خبرا غير ابتدائي، ولا يجب أن يحصل تشويش في العبارات والذي يؤءي إلى بلبلة المعنى والأفكار، كما لا يفضل احداث الخلل اللغوي في التركيب، واستعمال أمثال هذه العبارات التي استقيتها من الإذاعة من خلال متابعاتي لها لنشرة الثامنة خلال شهر أفريل لعام 2008 م، وقد كانت مجرد شتات لبعض الهنات التي يمكن علاجها وتفايديها: وصل وزير الداخلية الموريتاني إلى بلدنا واستقبله بالمطار وزيرالدولة وزيرالداخلية وهو يحمل رسالة ذات صلة بأوضاع الحدود الغربية بيننا وبين جمهورية موريتانية الإسلامية، أسلوب إطالة وحشو. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على اهتمامنا بالوضع... تركيب مترجم حرفيا عن تركيب فرنسي. جوبهت القوات الصهيونية من قبل أطفال الحجارة، حيث بني فيها الفعل للمجهول وذكر الفاعل. استقل الرئيس الطائرة، والمراد أقلته الطائرة الرئيس يستقبل سفير تركيا أمس، باستعمال الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال مع الظرف (أمس) الدال على المضي الصرف، ولا يستعمل هذا إلا في معنى المضي لمنحه معنى الحضور لأسباب بلاغية. استقبل الوزير من طرف الوزير عقب نزوله مدرج المطار، خطأ لغوي في النحو. ومن الأشياء التي يقع فيها الصحافيون: 1- سوء استخدام العدد، ونقص الدراية في استخدام العدد مخالفا للمعدود، إلى جانب سوء إعراب تمييزالعدد. 2- سوء نطق همزتي الوصل والقطع . 3- الترجمة الحرفية من الفرنسية أوالإنجليزية 4- عدم احترام القواعد الأساس للغة في نحوها من مثل معرفة مواطن فتح الهمزة إنّ، ومواطن كسر همزة إن، وكسر همزة إن بعد القول. 5- إهمال حسن توظيف البنى الصرفية، كقولهم: القانون الدُّولي بدل القانون الدَّولي، والتكوين المِهَني بدل التكوين المِهْني، الحِرَفيون بدل الحِرْفيون، والتجرُبة بدل التجرِبة، المَراس بدل المِراس، والتشويهات الخُلُقية بدل التشوهات الخِلْقِية، وجمعهم لكلمة طريقة على طرق، بدل طرائق واستعمالهم فعل الأمر من أضاف ضِفْ بدل أَضِف... 6- سوء استعمال الفعل المضارع، وعدم تقدير عين الفعل فيه، فيقولون: يرجَع، يسخَط، ينصرِ، يشرَب، يمزِح... 7- تعدية الأفعال المتعدية بنفسها بحروف الجر، من مثل: أعلن، التقى، تمكّن/ مكّن، حقّق/ تحقّق أكّد/ تأكّد، التقى، ألزم، واصل، افتتح، تمثل... 8- تعدية الفعل اللازم بنفسه، والأصل يتعدّى بحروف الجر مثل: عزم محمد المجيئ... 9- قراءة الكلمات خطأ في بنايتها الصرفية من مثل: المَتحف بدل المُتحف، الواقع المُعاش بدل الواقع المعيش، المَناخ بدل المُناخ، البلد المرجَع بدل المرجِع، العمل الرئيسي بدل العمل الرئيس... 10- كثرة الأخطاء في المظاهرالصرفية من مثل: تنوين الممنوع من الصرف، وماكان من جمع التكسير على وزن (أفعال)... 11- التساهل في المظاهر المعجمية الدلالية، وهي من الخصوصيات التي تعمدها لغة المذيعين في توليد المعاني، وتوليدهم لا يرتكز إلا على المجازأوالترجمة الحرفية، فنسمع: الأغلبية الساحقة، المائدة المستديرة، منطقة الخلل... ونرى من خلال هذه النماذج أن لغة الإذاعة مولعة باختيار بعض الأساليب سعيا وراء ترسيخها في اعتقاد المستمعين واقناعهم بما يكون عندالمشاهدة، لأنها إذا فاتها أن ترك بالعين فقد حلت الأذن محل العين سماعا، وحل محلها اللسان نطقا، كما نستشف من هذه النماذج أن ظاهرة الإعراب على رأس هذه الصعوبات، إلى جانب صعوبات التصريف، واضطراب الصيغ مع اختلاف معاني الأدوات في المواقع المختلفة، وسوء تقدير عمل المحذوفات، فلم يقع التركيز على النحو العملي المرتبط بالصحة اللغوية لعدم استقراء النصوص واستخلاص الأحكام المنطقية منها بالتأمل والمحاكاة ومراجعة القواعد النحوية التي تضبط أمثال تلك الخروقات، وهذا من أسباب السرعة التي توظفها وسائل الإعلام، لكن كان من المقررأن كل صحافي لديه مخزون من قواعد اللغة وضوابطها التي انطبقت في ذهنه واستقرت بعامل السماع والاستماع إلى أهل بيئته اللغوية، و هذا ما يدخل في باب الأداء المدرسي الذي كان قد أخذه سابقا، وحري به تمثلها وفق المقامات والسياقات، ومراعاة ضروب من التأليف ونمط من الأداء الوصتي ولون من النظم، وموسيقى الكلام، فكما يقال فإن الأسلوب للكاتب والللون للمصور، فعلى الصحافي أن يجمع بينهما. وهكذا رأينا في لغة المذيع أن هناك تحررا لغويا أحيانا لكن لهذا التحرر درجات، فلا يجب أن يمس الخروج عن قواعد اللغة أو هجر أصواتها أوابتكار مفردات فجة، أوالتعبير في بنية مفردات أُخَر، أو محاكاة قواعد اللهجات العادية في استعمال أساليب النفي والاستفهام والنداء وغيرها، إن للغة العربية ثوابت ومتغيرات، فالثوابت هي الأحكام النحوية التي لاتتغير مهما حدث تطور في اللغة، وأما المتغيرت فتتمثل في الأساليب المتجددة المستجدة والتي لاتنتهي، فهي وليدة ظروف ومعطيات ولا يعني أنها تخرج خارج القواعد بل تلازمها، وأحيانا تترخص في بعض خصائصها تحت باب الضرورات، وهنا تكمن حيوية اللغة العربية القابلة للتطور مما يدعو إلى اعطاء الدرس اللغوي أهمية قصوى للرفع من عطاء اللغة المشتركة عبر وسائل الإعلام للتخلص من كل الاستعمالات الخاطئة. إن المذيع كما نعرف يستعمل الإيجاز والاقتضاب، وسهولة العبارة،كما يستعمل لغة وسيطة بين الخطاب العادي والخطاب الأدبي، وهذا ما يجعله عرضة للأخطاء والزلات اللغوية، فخطابه خطاب عصر وتواصل دائم "خطاب العصر، خطاب التوصل المستمر الذي لا يعرف انقطاعا عبر وسائل الإعلام: الصحيفة والمجلة والنشرة والإذاعة والتلفزة"، ومن هناك كان على المذيع أن يغرف من كنف الأدب العربي، والذي يوفر له اكتساب العبارات الصحيحة والأسلوب الرائد الجيد، وهذا ما يميز الوظيفة الشعرية للغة الإعلام في بعض المواقف وإن قاموس العربية وفير بتوظيف مختلف الخصائص اللغوية من اشتقاق وتعريب وترجمة ونحت، وكما يمكن اغتراف تعابير معاصرة من باطنها لها قوة التأثير والتفعيل. ...يتبع