دأب قسم الدراسات والنشر والشؤون الخارجية بمركز "جمعة الماجد للثقافة والتراث" في دبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة، على إصدار دوريته المتميزة الموسومة ب«آفاق الثقافة والتراث"، وهي مجلة فصلية ثقافية تراثية، مدير تحريرها الدكتور عز الدين بن زغيبة، وأمينة سرها الدكتورة فاطمة ناصر المخيني، تتكون الهيئة العلمية للمجلة من الدكتورة فاطمة الصائغ، الدكتور حمزة عبد الله الماليباري، الدكتور سلامة محمد الهرفي البلوي والدكتور محمد أحمد القرشي. تعدّ هذه المجلة من المجلات العربية البارزة التي أضاءت سماء الفكر والإبداع والمعرفة، وفتحت دروبا للنقاش والحوار العلمي العميق والرصين، وامتازت بحضورها على الساحة الثقافية بمواضيعها وأبحاثها العميقة والجادة التي تحاول الممازجة بين الماضي والحاضر، لتضمن التواؤم بين القديم والجديد، وتجمع بين الأصالة والمعاصرة، من خلال معالجة القضايا الثقافية المعاصرة التي يعود بحثها بالفائدة على الثقافة العربية والإسلامية، وتُساهم في تجاوز المشكلات الثقافية الراهنة، وتسلّط الأضواء على القضايا التراثية والعلمية التي تساعد على تنمية الزاد الفكري والمعرفي لدى الإنسان العربي المسلم، وتهدف إلى إثراء الثقافة العربية الإسلامية بالجديد. ومن بين شروط النشر بالمجلة، أن يكون الموضوع المطروق متميزا بالجدة، الموضوعية، الشمول والإثراء المعرفي، وألا يكون البحث جزءا من رسالة الماجستير، أو الدكتوراه التي أعدها الباحث، ولا يكون قد سبق نشره على أي نحو كان، ويجب أن يكون البحث سليما خاليا من الأخطاء اللغوية والنحوية، مع مراعاة علامات الترقيم المتعارف عليها في الأسلوب العربي، وضبط الكلمات التي تحتاج إلى ضبط، كما يجب أن يُراعى في البحوث المتضمنة لنصوص شرعية ضبطها بالشكل مع الدقة في الكتابة، وعزو الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث النبوية الشريفة، كما يجب اتباع المنهج العلمي من حيث الإحاطة، الاستقصاء، الاعتماد على المصادر الأصيلة، الإسناد، التوثيق، الحواشي، المصادر والمراجع، وغير ذلك من القواعد المرعية في البحوث العلمية. وقد جاء العدد الجديد من مجلة "آفاق الثقافة والتراث" الذي حمل رقم "84"، حافلا بالعديد من الدراسات العلمية والأدبية والتاريخية القيمة، وافتتاحية العدد كتبها مدير تحرير المجلة، تحدّث فيها عن "مراعاة المصالح في الخطاب الإسلامي وقواعده"، وذكر أنّ مفهوم المصلحة في الشريعة لا يعني حصول النفع أو بلوغ لذة يجنيها الفرد أو الجماعة من وراء عمل ما فقط، وإنمّا هي غاية التشريع وأساس أحكامه جملة وتفصيلا، وهي عنصر المعقولية في جانب المعاملات منه، وبهذا تكون الرباط الوثيق الذي يشد الواقع إلى النص، ويجعله محكوما به كيفما كان العصر والمصر، ومثل هذا لا يترك تفسيره وتحديده لعبث الأهواء، وبناء عليه يجب على ممارس الخطاب الإسلامي أن يعرف أنّ التعاطي مع جلب المصالح ودرء المفاسد ليس أمرا اعتباطيا أو عشوائيا يسير فيه على هواه ورغبات شهواته، وإنّما أمر تتحكّم فيه جملة من القواعد الشرعية، والضوابط المرعية، والمعطيات الواقعية، وأحوال المخاطبين وظروفهم، وجهة التعاون الجماعي المراعية لحقوق الفرد ومصالحه المنسجمة مع الجماعة. المقال الأول في المجلة كتبه محمد سيف الإسلام بوفلاقة من عنابة بالجمهورية الجزائرية، وخصصه للحديث عن "تعليم اللغة العربية بين الرؤى الفنية والنظريات العلمية"، حيث ذكر في تمهيد بحثه أن الممارسات التعليمية المتعلقة باللغة العربية السائدة في المؤسسات التربوية تغدو ممارسات آلية عشوائية، في ظلّ غياب تحديد خطط تدريسية واضحة، ومناهج تربوية سليمة، فطرائق التدريس هي حجر الزاوية في تعليم اللغة العربية، لاسيما إذا علمنا أنّ تعليم اللغة العربية أمر صعب وخصب في الآن نفسه، فهو صعب من حيث أنّ هناك الكثير من التضارب والتباين في طرائق تدريس اللغة العربية، ومن حيث دقة تحديد المضامين التي يتوجب تعليمها والاقتصار عليها، وهي ميدان خصب، كونها لم تلق الكثير من البحث والتنقيب، ولم تحظ باهتمام كبير من لدن مختلف الدارسين والباحثين، ومن جانب آخر، فهي قضية لا يمكن الحسم فيها لأنّها قابلة للتجدّد، لاسيما في عصرنا هذا، عصر الانفجار العلمي والتكنولوجي والتقني، ومن ثمة فإنّ قضايا تعليم وتعلم اللغة العربية بحاجة إلى المزيد من الدراسة والبحث وتستحق الأبحاث تلو الأبحاث، بغرض الارتقاء والنهوض بالعملية التعليمية، بهدف تقويم الجهود المبذولة والوقوف على أسباب نجاحها والاستفادة من أخطائها وتحويلها إلى نجاحات، واستكشاف بعض المجالات المجهولة التي لم يتم التطرق إليها، وإيجاد الحلول الناجعة للكثير من القضايا المتصلة بموضوع تعليم اللغة العربية، لأجل كل ذلك يسعى هذا البحث الموسوم ب«تعليم اللغة العربية بين الرؤى الفنية والنظريات العلمية" إلى تسليط الضوء على بعض القضايا التي يرى بأنّها جديرة بالبحث والتنقيب، ولا يمكن تجاوزها من خلال الوقوف مع مجموعة من المبادئ الفنية المتنوّعة التي تتّصل بتعليم اللغة العربية، إضافة إلى بعض التجارب الناجحة التي أُدلي بها في هذا الميدان من قبل المشتغلين بتعليم اللغة العربية من مدرسين ومفتشين وتربويين وأساتذة المعاهد التربوية، كما ينفتح على جملة من الدراسات والنظريات اللغوية المعاصرة التي وظفت قصد خدمة اللغة العربية وتقريبها من المتلقي، وقد ختم سيف الإسلام بوفلاقة بحثه بتقديم مجموعة من التوصيات من بينها؛ "عدم إهمال الجانب الوظيفي في الاستخدام النحوي، فهو الذي يعمل على تنمية المهارات اللغوية المطلوبة في الحياة العملية، وعدم وجوده يُسبب غياب التذوق لمآثر اللغة العربية الشعرية والنثرية، مع ضرورة إقامة جسور تواصل بين الجانب النحوي، والنصوص المعتمدة في التدريس، والتمثيل من خلالها، واستخراج القواعد النحوية، حتى لا يحسّ الطالب بالعزلة عن المادة النحوية، والتفريق بين مختلف المستويات النحوية، فهناك فوارق جمة بين مستوى النحو الذي يتعلق بالعالم والباحث المتعمق والمستوى الذي يخص المتعلم المبتدئ، مع العمل على أن تكون مناهج تعليم وتعلّم اللغة العربية قائمة على تجارب دقيقة، ونتائج معمّقة مستخرجة ومستنتجة من البحث والتجريب، بهدف ترقية وتحديث المقررات والبرامج الدراسية للغة العربية، إضافة إلى الارتقاء بالطرائق المعمول بها وتطويرها من مرحلة إلى أخرى، وفقا لمتطلّبات ومقتضيات العصر وحاجات المتعلمين وكذا السعي إلى خلق تكامل بين مختلف العلوم والمعارف لترقية تعليم اللغة العربية، بحيث يتم تقويم استعمال اللغة العربية في المؤسسات التعليمية التربوية في ظل الحقائق المكتشفة والنتائج المستخلصة، ليس في علم واحد بل من خلال تضافر الجهود بين جملة من الباحثين المتخصصين في علوم متنوعة". وقد سلّط الباحث الدكتور يحيى بولحية، من المغرب الأقصى، الأضواء على موضوع "التربية والتعليم بالمغرب خلال العصر الوسيط"، فقدّم من خلاله إحاطة شاملة عن الوضعية التي كان عليها التعليم والتربية بالمغرب إبان العصر الوسيط، وأشار إلى أنّ ابن خلدون يعد شاهدا رئيسا على مضمون وطرائق التعليم اللذين سادا بالمغرب خلال العصر الوسيط، أيام المرابطين والموحدين والمرينيين، ونبّه إلى أن بحثه لا يقتصر على دراسة بنية التعليم ومواده الدراسية، بل يمتدّ إلى ما يمكن تسميته بتقاليد الانتظام المؤسساتي داخل المنابر التعليمية المختلفة التوجهات والأدوار، وارتبط ذلك الانتظام بتحوّلات السياسة منذ عصور الدول العصبية، وشكّل مطلب العلم والتعليم ركنا أساسا في مشروع قيام الدولة المرابطية، فقد أسّس يوسف بن تاشفين بفاس مدرسة الصابرين التي سميت فيما بعد بمدرسة بومدين، وكان ذلك في أوائل القرن الخامس الهجري، والتحقت مجموعة من النخب العلمية والثقافية بعدوة الأندلس، ومن جهة أخرى يذكر الدكتور يحيى بولحية أن الموحّدين حاولوا تكوين نخبة تعليمية قادرة على حمل أمانة الفكر المهدوي، وحضر مطلب التعليم بقوة في برنامج الدولة الموحدية، وهي الدولة التي قامت على أساس العلم وقوة الحجة، وجرأة الفكرة، والدراية بأساليب المناظرة والجدل، كما تركب ذلك في شخصية وتكوين وإصلاح محمد بن تومرت، وتتجلى أهمية هذا المطلب في جعل التعليم إجباريا، فكان على كل من انضوى تحت راية الموحدين أن يتعلم الضروري من العقائد وما يتعلق بالصلاة، وبالغ عبد المؤمن في هذا الأمر فجعله حتما لازما على كل مكلف، وأنتج العهد الموحدي بعض المدارس التي تنم عن ذهنية الابتكار والانتصار لمبدأ العلم المحايد الذي يستهدف الإنسان بغض النظر عن انتمائه المذهبي أو الديني، ومثّلت الأندلس كمقاطعة مصمودية نموذجا بارزا في هذا المجال. قام الدكتور محمد خير محمود البقاعي من قسم اللغة العربية بجامعة "الملك سعود" بالرياض، بترجمة بحث لشارل بلا عن "أسجاع الأنواء ومنازل القمر عند العرب"، وأشار في مقدمة ترجمته للبحث إلى الأسباب التي دفعته إلى القيام بالترجمة، حيث يقول؛ "لما استقر بي المقام في المملكة العربية السعودية بعد طول تجوال، اطلعت على كتب وبحوث لعرب أو غربيين في القضايا التي تهمني، وكان من ذلك كتب وبحوث تتعلق بجوانب طريفة من التراث العربي والعالمي، أجلت العمل فيها حتى ترجمت كتاب *القمر، أساطير وطقوس* لكوكبة من المؤلفين، ونشرته دار "الغرب الإسلامي" سنة 2007 م، واحتوى الكتاب على فصل عن القمر عند العرب وفي الإسلام، كتبه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون، وكان من بين مصادره كثير من كتب الغربيين وبحوثهم التي اهتمت بالظاهرة التي يتحدث عنها، وكان بحث شارل بلا الذي نقدم له واحدا من تلك البحوث التي عاد إليها، شدني البحث بطرافته وأصالته، وبالجهد الكبير الذي بذله مؤلفه في تتبع ظاهرة الأنواء ومن ألفوا فيها، فجمع وحلل وفسر وأوّل، فجاء بحثه مفيدا استوعب كل جوانب الموضوع المدروس، عزمت على ترجمته وتقديمه للقارئ العربي نموذجا للترجمة العلمية الجادة الشاملة التي يستفيد قارؤها كل الفائدة". وقدّم الدكتور محمد خير محمود البقاعي ترجمة لشارل بلا، مما جاء فيها؛ "شارل بلا ولد في سوق أهراسبالجزائر بتاريخ 28 /09 /1914م، تلقى تعليمه الثانوي في الدار البيضاء، وحصل على ليسانس في اللغة العربية من جامعة بوردو، وشهادة العربية من معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط، وعلى شهادة أهلية التعليم بالعربية وعلى دكتوراه في الآداب من جامعة باريس، عمل في عدد من المعاهد والمدارس الثانوية، وفي وزارة الخارجية، ثم في مدرسة اللغات الشرقية، وفي السوربون سنة 1956 م، ومديرا لقسم الدراسات الإسلامية في جامعة باريس- السوربون سنة 1972 م، ومديرا لدائرة المعارف الإسلامية في نشرتها الفرنسية سنة 1956م. أمّا الدكتور محمد بن محمد الحجوي من سلا بالمملكة المغربية، فنقرأ له مقالا موسوما ب«خصائص النقد الأدبي عند ابن عبد الملك المراكشي"، خصّصه لبيان منهج المراكشي وجهوده في النقد الأدبي، إذ مثل- كما يذكر الباحث- ثقافة عصره الشمولية، فكان فقيها محدثا تاريخيا ولغويا ونحويا دارسا بعمق لعلمي العروض والقافية، إضافة إلى أنه كان شاعرا مطبوعا موهوبا جادت قريحته بأشعار تعد من عيون الشعر المغربي في أغراض عديدة، مما جعله من شعراء عصره المبرزين، وكان يختار أجود الأشعار التي يستشهد بها على ملحوظاته النقدية لإبراز مكانة الأدباء والشعراء والتعريف بالحركة الأدبية والفكرية التي ازدهرت في عصرهم، والأشعار التي اختارها تدل على ما كان يتميّز به من ذوق مرهف وشعور رقيق وإحساس فائق الجمال إلى جانب قوة الكلمة في التأثير على المتلقي، كما أنّ تعليقه عليها يبرز ثقافته الأدبية واللغوية والنحوية، واطلاعه الواسع على مذاهب الشعراء والأغراض التي كانوا يجيدون القول فيها. وتركّز مقال الدكتور أحمد بوزيان من الجزائر على "شعرية الانزياح، قراءة في المنجز النقدي العربي القديم-"، حيث توقّف فيه مع إشكالية مفهوم الانزياح في المنجز النقدي العربي القديم، وتحدّث الدكتور عباس هاني الجراخ من العراق في مراجعته عن ديوان "العزازي المتوفى سنة 710 ه، نظرات نقدية ومستدرك"، في حين خصّص الدكتور عبد الرزاق حويزي من كلية الآداب بجامعة الطائف بالمملكة العربية السعودية بحثه للوقوف مع ديواني "الشريف المتوفى سنة 760 ه، وأبي جعفر المتوفي سنة 779 ه ‘الغرناطيين'". وقدّم الدكتور المهندس عماد يونس لافي من قسم اللغة العربية بجامعة بغداد "نظرة نقدية في بعض المصطلحات النحوية"، وعرض في الأخير نتائج بحثه العميق والمتميز، حيث ذكر أنّ بحثه أثبت عدم دقة المصطلحات الخمسة المذكورة في مقدمته، وهي؛ الخبر والمسند والمسند إليه والمضاف والمضاف إليه في التعبير عن مضامينها، لأسباب دلالية وصرفية، واقترح البحث مصطلحات خمسة تقابل هذه المصطلحات، فالخبر يقابله المنتهى، والمسند يقابله المسند إليه، والمسند إليه يقابله السند، ليستقر الأمر بعد ذلك على قولنا؛ السند والمسند إليه، والمضاف يقابله المضاف إليه، والمضاف إليه يقابله المُضيف، ليصبح لدينا مصطلحا المضاف إليه والمضيف، بدلا من المضاف والمضاف إليه، ويوصي البحث بمتابعة الدراسات النقدية في المصطلحات النحوية، لأنّ مثل هذه البحوث لها أثر كبير في إزالة الغموض النحوي عند بعض الدارسين، فضلا عن فائدتها في تطوير أساليب تدريس مادة النحو العربي، لأنّ العودة إلى العلاقة بين المعنى المعجمي للمفردة والمعنى الدلالي للمصطلح تزيد المادة العلمية وضوحا عند العالم والمتعلم على حد سواء. كما نلفي في العدد 84 من مجلة "آفاق الثقافة والتراث" مقالا للباحث أنيس الرحمن الندوي؛ الأمين العام للأكاديمية الفرقانية الوقفية ببنجلور بالهند، تحدّث فيه عن "التصوّرات الجغرافية الإسلامية- دراسة مقارنة بين الأحاديث والجغرافية والجيولوجيا"، واختتم العدد بمقال للدكتور محمد بن أحمد بن المحبوبي؛ رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بنواكشوط في موريتانيا، خصّصه لدراسة وتحقيق "قف الشاي"، وشرح دراسته وتحقيقه في المقدمة، حيث يقول؛ "نودّ في هذا الجهد أن نتلبث يسيرا مع نص من النثر الفني قصير لا يتجاوز الصفحة الواحدة، وهو من تأليف أحمد بن أحمدون الحسني، ويبدو أنّه سطّره تسجيلا لجانب من الحياة الاجتماعية، يُعنى بتحضير الشاي ووصف مجالسه وما تقوم عليه من أدبيات ومسلكيات وأعراف، وحاور ضمنه نص مختصر خليل في فروع الفقه المالكي، متتبعا نهجه في اختصار الكلم وإبراز الأحكام".