تضمن العدد الثالث والعشرون من مجلة ''اللغة العربية'' نصف السنوية الصادرة عن المجلس الأعلى للغة العربية، جملة من البحوث والدراسات المعمقة التي ترصد قضايا في الشأن اللغوي بمناهج عملية دقيقة. في كلمة العدد توقف رئيس تحرير المجلة عند موضوع الترجمة، بمناسبة قرار إصدار دورية ثانية للمجلس الأعلى للغة العربية، خاص بالترجمة في أوسع معانيها ومعارفها، مستعرضا أهمية هذا الإنجاز ومتصفحا تاريخ ودور الترجمة في الحضارات القديمة والحديثة. اشتمل العدد على الكثير من الدراسات العلمية نجد في مستهلها ''النحو العربي بين التيسير والتعسير'' للدكتور عبد الجليل مرتاض من جامعة تلمسان، ركز المؤلف على أمهات كتب النحو والصرف واللغة ابتداء من ابن الدؤلي ثم سبويه الذي يبقى واضع قوانين وضوابط العربية التي لم يسبقه إليها أحد ولم يجئ بها أحد بعده. يعرض المؤلف عوامل تسهيل اللغة في عصور الإسلام الأولى والتي كانت تستهدف خاصة الشعوب الأعجمية الداخلة في الإسلام ويقول: ''هذه العوامل ونحوها عملت عملها على أن يكون النحو العربي ميسرا أكثر منه معسرا، وأبين ما يكون ميسرا إذ ا ما فرز كل مقصد من مقاصده وفصل كل مستوى من مستوياته، فكتاب سبويه لا يحتاج الى تسيير لأنه ميسر في ذاته، بل إن التعامل مع لغته العلمية لعصره ومقابلتها بالعربية التاريخية، ومدى ما شهدته من تغيرات دلالية بالنسبة لعلم اللسان العربي''. الدراسة الثانية في هذا العدد أنجزتها الأستاذة فريدة بن فضة من جامعة تيزي وزو، وهي بعنوان ''أصول النظر النحوي في كتاب سيبويه''، المؤلفة اعتبرت أن كتاب سبويه نموذج لكل كتاب نحوي يسعى الى اكتشاف نظام العربية بأدوات نظرية، فسبويه فيما يبدو ينطلق من اللغة على أساس أنها استعمال وما يحمل هذا الاستعمال من قواعد تتحكم فيه، ولعل القواعد التي يستقيها في شكل نظام أصل وفرع هو الذي سيوضح المنهج الذي أراده سبويه من تأليفه للكتاب على نظام خاص. لكتاب سبويه مكانة عظيمة في الدرس اللغوي عند العرب، فهو أول كتاب وصل إلينا استطاع فيه صاحبه أن يقدم وصفا شاملا دقيقا للغة العربية في نحو ألفي صفحة تنتظم 558 باب و420 شاهد قرآني و947 بيت كامل من الشعر و306 عبارة و296 رأي لأئمة النحاة السابقين عليه وعدد لا يحصى من الأمثلة التي صاغها سبويه قياسا على ما هو مستعمل من لغة العرب. توجد في هذا الكتاب أصول أحكام التجويد والقراءة، كما يقدم للنحوي أضخم مادة علمية في علم النحو حتى إنه لم تتح للمتأخرين (أي بعده) فرصة الزيادة فيها، هذه المادة قدمها سبويه بصورة تختلف عما هو مألوف من حيث الترتيب والتبويب والمصطلحات ضمن نفس السياق الذي يدخل في نحو وقواعد اللغة، شاركت في هذا العدد الدكتورة مها خير بك ناصر من جامعة البلمند بلبنان ب''السياق اللغوي وفعل المكونات الصرفية والنحوية''. ترى المؤلفة أن الكلمات المنطوقة أو المكتوبة تختزل الوجود والغياب للشيء المستحضر، فيمكن اعتبار اللغة شرطا أساسيا للوعي الذاتي والجمعي لأنها تشكل الوسيط بين الإنسان وبين الأشياء، فاللغة إذا خلق مستمر تبني الفكر وتتبنى تجسيد حركته، ولما كان البناء القابل للاستمرار متسما بالجدة فلابد من أن تواكب أنماطه المتجددة انحرافات في دلالة المنطوق اللغوي وإضافات تفرضها طبيعة التراكبيب المشحونة بحركات داخلية مضبوطة بقوانين صرفية ونحوية تعمل على فرملة المكونات ضمن مساراتها الدلالية النحوية والصرفية والبلاغية من دون أن تسلبها حريتها في اختيار مواقعها داخل التنظيم بما يتناسب والقيمة المعنوية للنتاج الفكري. دراسة أخرى تضمنها العدد عن ''استثمار علوم اللغة في تحليل الخطاب الإعلامي'' للدكتور بشير أبربر من جامعة عنابة، والتي تشير إلى أن الخطاب الإعلامي صنف من بين أهم أصناف الخطابات اللغوية المتغلغلة في أعماق الحياة الاجتماعية المعتبرة عن كل مجالاتها الحياتية المؤثرة فيها المتأثرة بها، فقد تحول الإنسان في هذا العصر إلى كائن إعلامي تواصلي. إن اللغة الإعلامية بالرغم من كونها توصف بأنها تقريرية إخبارية مباشرة تصف الأحداث وتقدمها في شكل حقائق بالنسبة للجمهور، فإنها لا تخلو من مجاز أو بلاغة، إذ توجد بها كثير من الأساليب الإيحائية المخبوءة التي تلمح أكثر مما تصرح، كما أن للخطاب الإعلامي معجم خاص يميزه عن غيره من الخطابات ويحدد هويته اللغوية. تضمن العدد أيضا دراسة تطبيقية للدكتور عرابي أحمد بعنوان ''دلالة التناص في القرآن الكريم''، ويركز الباحث فيها عن التأمل في الخطاب القرآني الذي يؤدي الى التعدد في دلالته على المعنى، ويتعلق الامر بها يدل عليه الكلام من ظاهر وباطن، فقد يسمع اللفظ أو يقرأ فيتبادر منه إلى ذهن السامع أو القارئ بحسب الوضع اللغوي، فإذا تدبره وتأمله فهم منه مقاصد خفية واغراضا مطوية، وهذا الخفي قد يختلف فيه ولا يدرك إلا بشيء من الجهد والبحث. جاءت في العدد أيضا دراسة قيمة للدكتور عبد الله أبو هيف من سوريا بعنوان ''توحيد مناهج اللغة العربية في الأقطار العربية، العوائق والحلول''، وتشير إلى أن العناية بمناهج اللغة في الأقطار العربية سيمكنها من الترسيخ في الوجود الوطني والقومي بشكل عام وفي القضايا الثقافية والاجتماعية بشكل خاص. للإشارة، فقد وقفت الدراسة عند تاريخ العربية في الجزائر والجرائم التي تعرضت لها إبان الاحتلال، مستشهدة ببعض الكتب التاريخية التي ألفها جزائريون. ويقول المؤلف أنه يفيد كثيرا توحيد مناهج اللغة العربية في مواجهة العوائق، وأفلحت الحلول في إقصاء المخاطر عن القضايا الثقافية واللغوية العربية المعبرة عن الوجود الوطني والقومي عند ضبط المصطلحية والمعجمية، والعناية بالتحليل اللغوي الاجتماعي وضرورة الفهم اللغوي القرائي واستراتيجياته المعرفية، والاهتمام باللسانيات في تعليم اللغة العربية وتعلمها ومجاوزة تكاثف العوائق اللغوية، في قضايا المعرب والدخيل من جهة، والتعريب في مواجهة العولمة من جهة أخرى ومواجهة تضعيف المصطلح العربي اللغوي ومضاعفات إشكالية المصطلح والإسهام في فاعلية التنوين والدلالة في حلول المنهجيات اللغوية الحديثة، والعناية المطلقة بتعليم العربية لإيقاف العوائق اللغوية والثقافية. للتذكير، فقد تضمن هذا العدد الكثير من الدراسات الأخرى، منها مثلا دراسة عن ''العربية العلمية المستخدمة في نشرات الأدوية'' لجويدة معبود من جامعة الجزائر، وأخرى عن ''الوقف القرآني في المصاحف'' لمبروك زيد الخير، و''التفاؤل في شعر إيليا أبو ماضي ومحمد حسين شهريار'' لمحمد جعفر أصغري من إيران، و''هل توجد لغة عبرية قديمة في الواقع اللغوي الشرقي القديم؟'' لمحمد المختار العرباوي من تونس.