"اذا كانت مكة قبلة المسلمين والفاتيكان قبلة المسيحيين فإن الجزائر تبقى قبلة الأحرار والثوار"، عبارة قالها الزعيم الثوري الإفريقي اميلكال كابرال لخص من خلالها ما كانت تمثله الجزائر بالنسبة لأحرار القارة الإفريقية ولعشرات الحركات الثورية التحررية التي عرفت النور مباشرة بعد استقلال الجزائر قبل 46 عاما. والواقع أن الجزائر التي خرجت من ابشع حرب مع اكبر قوة استعمارية منتصف القرن الماضي وجدت نفسها في قلب فورة تحررية كانت سببا في اندلاعها ولم يكن في مقدورها التنصل منها ودعم القائمين بها. وهو ما جعل الزعيم الثوري الغيني يقول عبارته المشهورة تلك، أضفى عليها الرئيس الراحل هواري بومدين عبارة اكثر مدلولية عندما قال هو الآخر قولته الشهيرة "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" التي لم تكن لها اسقاطات على الثورة الفلسطينية ولكن على كل الثورات التحررية الاخرى في العالم. والمؤكد أن دعم الجزائر لمختلف حركات التحرر لم يقتصر فقط على القارة الإفريقية التي خضعت لأبشع استعمار أوروبي وان اختلفت جنسيات أصحابه وانما تعداه إلى أمريكا اللاتينية وآسيا. وفي ظل ذلك الزخم الثوري تحولت الجزائر فعلا إلى "مكة" لثوار من أجناس وألوان وديانات مختلفة إذ كان يكفي لكل من رفع صوته مجاهرا بعدائه للاحتلال والإذلال أن يجد في الجزائر المأوى والملاذ ومصدر الدعم والإسناد. ورغم أن عقودا مرت منذ اندلاعها إلا أن الثورة الجزائرية مازالت مثالا يقتدى به ورمزا لكل الثورات التي ميّزت مسيرة الإنسانية في الصين أو فيتنام وغيرها من الثورات الأخرى التي بقيت شاهدة على كفاح شعوب اضطهدت. ولم يكن لقب قبلة الثوار الذي منحه اميلكال كابرال أحد رموز الكفاح التحرري الإفريقي إلا تصديقا للدور الذي لعبته الجزائر في دعم الثورات الناشئة في مختلف القارات اعتمادا على المنطلقات الواحدة الرامية إلى تأييد كل صوت طامح لكسر طوق الهيمنة والإستعباد. ولم يكن للجزائر المستقلة ورغم محدودية إمكانياتها مباشرة بعد استقلالها قبل 46 عاما أن تخرج عن هذه القاعدة التي حكمت سياستها الخارجية وانطلاقا من الدعم الذي كانت تلقاه هي الأخرى من كل الدول والقوى التحررية في العالم. ورغم أن الدعم الذي كانت تلقاه الثورة الجزائرية في حينها جاء في سياق تداعيات حرب باردة وفي إطار شراسة الصراع بين كبار العالم آنذاك لاقتسام مناطق النفوذ في عالم حكمته تجاذبات ايديولجيا الفكر الشيوعي والليبرالي فان الجزائر المستقلة انتهجت نفس طرق الدعم ولكن بغاية مخالفة تكرست من التجربة المريرة لأكثر من 132 سنة من الصراع مع ابشع استعمار استيطاني في العالم وبقناعة أن من اكتوى بحرارة نار الاستعمار لا بد أن يشعر بمعاناة الآخرين من أمثاله. ويحتفظ قادة وثوار دول وحركات تحرر إلى حد الآن بتلك الصور التضامنية التي كانت تقدمها الجزائر لهم ولحركات التحرر الأخرى وهم الذين كانوا يجدون فيها قبلتهم الوحيدة عندما يضيق بهم الحال ولا يجدوا السند اللازم لمواصلة مسيرة كفاح هي بالضرورة ليست سهلة بسبب تجاذبات السياسات الدولية التي فرضها منطق الأقوياء في عالم فضّل أن تسوده حرب باردة ولكنها في واقع الحال كانت ساخنة على شعوب بأكملها. ولم تكن حركات ثورية في شرق إفريقيا أو غربها أو حتى جنوبها تستطيع اتخاذ قرار الثورة ما لم تحظى بدعم السلطة الفتية في الجزائر والتي تحوّلت إلى أشبه بقاعدة خلفية لها. ولم يقتصر الدعم على المال والسلاح والدعم السياسي بل تعداه أيضا إلى تكتيكات الحرب التي خاضها مقاتلو جيش التحرير في وجه القوات الاستعمارية المدعومة بقوات الأطلسي. وتتذكر أجيال من الجزائريين في زخم الأحداث التي عرفتها عقود ستينات وسبعينات القرن الماضي شخصيات افريقية رسمت التاريخ الإفريقي وشكلت رموز الكفاح التحرري الإفريقي وأصبحت فيما بعد وجوها سياسية بارزة في دولهم المستقلة بدءا بنيلسون مانديلا وديسموند توتو في جنوب افريقيا وجوشوان كومو وروبيرت موغابي في زيمبابوي وسامورا ميشل في الموزمبيق وباتريس لومومبا في الكونغو واميلكال كابرال الزعيم الثوري الغيني وسام انجوما زعيم حركة "سوابو" في نامبيا. فلم يكن مطار الجزائر الدولي وطيلة سنوات يخلو من حركية دؤوبة لوجوه تلك الشخصيات التي ألفها الجزائريون لعدة سنوات بل أن الكثير منهم مَن لم يجدوا أرضا يلجأون إليها، فضلوا البقاء فوق ما يحلو لهم تسميتها ب "ارض الأحرار" وهو ما مكنهم من الإشراف على حركاتهم التحررية وقيادتها إلى غاية تحقيق الهدف النهائي في الاستقلال. ولم تكن مساندة الجزائر لكل هذه الحركات التحريرية إلا امتدادا لمبادئ ثورتها التي مازالت تؤمن بحق الشعوب في تقرير المصير. وليس من الصدفة أيضا أن يؤكد الراحل ياسر عرفات بعد إعلان قيام الدولة الفلسطينيةبالجزائر بدلا من عدة عواصم أخرى أن اختيار الجزائر لهذا الحدث البارز في تاريخ الكفاح الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، كان تبركا بأرض ثورة نوفمبر التي ألهمت قادة الثورة الفلسطينية وشجّعتهم ثلاث سنوات بعد استقلال الجزائر على إعلان ثورتهم التحررية في الفاتح جانفي 1965. ومن هذا المنطلق لم تفرط الجزائر في ثورات مشروعة حملت نفس شعارات الإنسانية التي اعتمدتها ثورة التحرير الجزائرية مهما كانت منطلقاتها الفكرية والمهم بالنسبة لها أنها كانت تحمل فكرا انعتاقيا من كل قيود واضطهاد. وهي المرجعيات أيضا التي جعلتها ترفض التخلي عن مبادئها بخصوص الكثير من قضايا التحرر التي مازالت شعوبها تكافح من اجل تحقيقها. وإذا كانت ثورة التحرير الفلسطينية شكلت حجر الزاوية في الدعم الجزائري ولخصها الرئيس هواري بومدين في عبارته المشهورة "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" فان الحكومات الجزائرية وقفت إلى جانب كفاح الشعب الصحراوي في التحرر من التبعية الأسبانية أو في ظل الاحتلال المغربي الموريتاني ثم المغربي لاحقا وأيضا كفاح حركات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. ولم يكن لهذه المساندة أن تمر هكذا دون أن تجلب للجزائر متاعب سياسية دولية كبيرة لدفعها عن مواصلة دعمها لحركات التحرر في العالم ولكنها آثرت مصالح شعوب بأكملها على مصالحها الآنية.