اقتنع اعضاء الحلف الاطلسي بعد تجربة المغامرة الجورجية في منطقة القوقاز بضرورة تغيير استراتيجيته العسكرية تجاه روسيا بعد أول وأصعب أزمة تعرفها علاقات الجانبين منذ انتهاء الحرب الباردة. واقتنع مختصون في علاقات موسكو والناتو بحتمية اعادة النظر في استراتيجية هذا الأخير بعد أن بقيت دوله عاجزة طيلة أسبوع كامل عن اتخاذ موقف موحد في كيفية التعاطي مع تدخل القوات الروسية للرد على عمليات القصف الجورجية على جمهورية اوسيتيا الجنوبية. ولم تتعد ردود الفعل الغربية بما فيها الأمريكية لغة التهديد والتحذير ضد موسكو لدفعها إلى وقف عملياتها العسكرية ولكنها تصريحات بقيت في إطارها الاعلامي في وقت كانت فيه القوات الروسية مصممة على تحقيق اهدافها ضد القوات الجورجية بل والوصول الى العمق الجورجي في تحد لتبليسي وايضا لواشنطن التي زكت بطريقة ضمنية عمليات القصف الجورجي ضد اوسيتيا الجنوبية. والواقع ان موسكو لم يكن من مصلحتها التراجع في اول امتحان من هذا الحجم وايضا في سياق احداث متلاحقة على حدودها كان اخرها توقيع الولاياتالمتحدة وبولونيا على أول اتفاق لإقامة دروع صاروخية فوق اراضيها. والمؤكد وانطلاقا من نتائج عملياتها العسكرية أن جورجيا لم تختر التوقيت المناسب للقيام بهجومها، سوء تقدير استغلته موسكو بكيفية جيدة لعلمها المسبق أن دول الحلف الأطلسي تفتقد الى التجانس المطلوب بينها من اجل اتخاذ موقف عملي موحد ضدها وهو الأمر الذي جعلها تصر على القيام بعملياتها العسكرية والوصول الى مشارف العاصمة الجورجية تبليسي على خلفية التفاوض معها من موقع قوة بمجرد انتهاء العمل العسكري. وقد تأكد مع مر الأيام أن روسيا خرجت الرابح الأكبر من التجربة الأخيرة بدليل ان ابخازيا الجمهورية الانفصالية في شمال جورجيا تقدمت بطلب رسمي إلى روسيا لقبول استقلالها عن جورجيا في شبه رد فعل على استقلال كوسوفو بل أن العدوى مرشحة لان تطال اوسيتيا الجنوبية بمبرر أن غالبية سكانها من الروس. وقد اعترف دبلوماسيون أوروبيون أن الحلف الأطلسي افتقد منذ نهاية الحرب الباردة لعدو واضح بعد اختفاء دولة الاتحاد السوفياتي وقد ودت دوله في الأزمة الجورجية فرصة مناسبة من اجل استعادة وحدته المفقودة. ولكن هؤلاء الدبلوماسيين اجمعوا على التأكيد ان ذلك لن يوصلهم إلى حد اتخاذ قرار حاسم كأن يقبلوا بانضمام جورجيا أو أوكرانيا الى عضويته بقناعة الانعكاسات السلبية التي يتركها مثل هذا القرار على علاقاتهم المستقبلية مع روسيا. ولكن ذلك لم يمنع من طرح العديد من التساؤلات حول ما إذا عادت الدول الغربيةوروسيا إلى حرب باردة ولكن بمعطيات جديدة مغايرة تماما لتلك التي حكمت علاقات الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. والمؤكد أن هذه الحرب ستعرف أوجها خلال السنوات القادمة ولكن بعوامل بعيدة عن الإيديولوجية وسيكون العامل الاقتصادي اهم محركاتها. وقد بدأت الدول الغربيةوروسيا فعلا سباقا مع الزمن لبسط سيطرتها على مناطق النفوذ الاقتصادي في افريقيا واسيا من خلال التركيز على إقامة علاقات وثيقة مع دول صاعدة في هاتين القارتين لإحكام سيطرتها الاقتصادية على مناطق بأكملها وضمان الاستحواذ على أسواقها من جهة والتزود بمنتجاتها الاستراتيجية وعلى رأسها مادة النفط الحيوية من جهة ثانية. والفارق الوحيد في هذا الصراع أن الحرب الباردة خلال الألفية الثالثة التي طغت عليها رائحة المنافع الاقتصادية لم تعد مقتصرة على قطبين بل تعدته لتشمل عدة دول أخرى فرضت نفسها كقوة اقتصادية عالمية بعد بروز الصين والهند والمانيا واليابان وحتى البرازيل في أمريكا اللاتينية. ويبدو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي بدأت ترى في روسيا القوة الاقتصادية المنافسة لها أرادت صد جموحها من خلال إقامة درع صاروخي على حدودها وإلهائها بسباق تسلح جديد وتكسير طموحاتها الاقتصادية سيرغم روسيا على تخصيص اموالا طائلة للجهد العسكري بدلا من تخصيصه لتطوير اقتصادها وهو العامل الذي لم تستطع دولة الاتحاد السوفياتي السابق مسايرته واضطرها في النهاية الى رمي المنشفة والانهيار المحتوم بعد سبعين عاما من الوجود والمنافسة الشرسة.