تتطلع مدينة بابور التي تقع على بعد 50 كلم شمال سطيف، والتي تظهر وكأنها جزيرة بارزة بين سلسلة من الجبال يبلغ ارتفاع أعلى قممها أكثر من 2000 متر، إلى مواكبة قطار التنمية وعدم الابتعاد عنه وينزعج سكان هذه المدينة المضيافين عندما يسمعون أيا يقول بأن بابور تعطي لزوارها الشعور بالنعاس، لاسيما في هذه الأيام الشتوية التي تكتسي فيها هذه المنطقة رداء أبيضا سميكا، وفي الواقع هذا مجرد مفهوم خاطئ لكون سكان هذه المنطقة العمرانية بحوالي 30 ألف ساكن تضرروا كثيرا من العشرية السوداء التي تسببت في عزلتهم وأضحوا في الوقت الحالي متعطشين للحياة. ويتذكر ”مراد.ر”، وهو تقني في البناء ما أسماه ب”كابوس” سنوات التسعينيات قائلا ”قبل أن يحل الظلام، تتحول بابور إلى مدينة ميتة، حيث كان السكان يسارعون إلى دخول مساكنهم مبكرا”، كما يتذكر مغادرة العديد من سكان هذه المنطقة نحو مناطق ”أكثر رحمة” هروبا من الإرهاب، مضيفا أن ”الاعتداءات وعمليات الخطف والتخريب كانت متبوعة بهجمات قوات الأمن لمحاصرة ومطاردة الإرهابيين، حيث لم تكن هناك فترة استراحة (...) حتى أنه تم تحويل مركز التكوين المهني الوحيد إلى وحدة للمظليين من أجل حماية المنطقة”، مشيرا إلى أنه بالرغم من ذلك قرر الكثير من السكان المحليين البقاء من أجل مساعدة مصالح الأمن كعناصر الدفاع الذاتي للتغلب على المجرمين الذين كانوا يجوبون كامل المنطقة وصولا إلى غاية جيجل. ”وشيئا فشيئا انتهى الأمر بأن أثمرت الضربات الموجهة للإرهابيين، حيث عاد السلم والهدوء بشكل كلي بفضل ميثاق السلم والوئام المدني”، حسب مراد الذي يوضح بأنه يشعر ب”استعادة طعم الحياة” عندما يرى ابنيه الاثنين يتجهان كل صباح نحو المدرسة دون أي خوف. ففي الوقت الذي كانت تتهيأ فيه المنطقة للاستفادة من مكانتها الجديدة كدائرة بغية بناء نفسها أكثر والرفع من مستواها التنموي، برزت على السطح موجة القتل، حيث استغلت مجموعات إرهابية التضاريس الصعبة للمنطقة والغابات الكثيفة وكذا المخابئ المهيأة من قبل الطبيعة وصارت تنشط بالمنطقة وصولا إلى غاية ولاية جيجل المجاورة مما ضاعف من عدد الهجمات والاغتيالات والكمائن. ونجح أعوان الدفاع الذاتي الذين حملوا السلاح والحرس البلدي وقوات الجيش الوطني الشعبي التي عسكرت في تلك الفترة (سنوات التسعينيات) بمركز التكوين المهني في توجيه ضربات موجعة للإرهابيين رغم أنهم كانوا يعملون في ظروف جد قاسية. وبالرغم من المواقف الجد صعبة التي مروا بها، إلاّ أن سكان بابور حافظوا على قدرتهم في تحمل الأذى والضرر. وخلال ال10 سنوات التي سيطر فيها الخوف والصراخ والدموع، لم يفقدوا الأمل وظلوا مقتنعين بأن النهار المشرق سيحل لا محالة محل الليل المظلم بمدينة بابور وضواحيها. وكانت العودة التدريجية للسكان نحو أراضيهم مثل قطاع التربية الذي شهد إنجاز عدة مؤسسات تعليمية في أطوار التعليم الثلاثة ويعلم سكان بابور على كل حال بأن منطقتهم تزخر بما يكفي من عناصر الجاذبية والمؤهلات الطبيعية اللازمة لازدهارها. المحميات الطبيعية غنية تتميز مدينة بابور، الواقعة بأقصى شمال - شرق ولاية سطيف غير بعيد عن سد إراقن بولاية جيجل المجاورة، وعلى بعد أقل من 20 كلم عن ساحل البحر الأبيض المتوسط، بالجمال ”المتوحش” لمناظرها الطبيعية ولا يوجد ما هو أروع من البانوراما التي ترسمها قمم السلسلة الجبلية الممتدة على 100 كلم والتي يبلغ ارتفاع أعلاها أكثر من 2000 متر حيث تنمو ثروة نباتية غنية بالأنواع النادرة مثل الصنوبر النوميدي وفطر تريشولوما كاليغاتوم (المطلوب بكثرة بالسوق الخارجية)، علاوة على ثروة حيوانية هامة على غرار طير القبائل الذي يوجد منه عدد قليل وقرد البابون والنمس والزغبة (من القوارض الليلية الشبيهة بالسنجاب)، كما يزخر الامتداد الغابي الذي يغطي جزءا هاما من هذه المنطقة، التي كانت أيضا حصنا منيعا للثوار، بمنابع من الماء الصافي والطبيعي تكمل اللوحة الخلابة المتاحة أمام زوار هذا الركن الصغير من ”الجنة” الذي يعد أحد أغنى المحميات الطبيعية عبر العالم. إمكانيات تنموية معتبرة مرت السنوات واستعادت المنطقة طعم الحياة مثلما يثبته ذلك الانتعاش السائد بشكل مستمر عبر الورشات العديدة المفتوحة هنا وهناك، وهي مشاريع محلية تحتاج إليها المنطقة كثيرا لأنه إبان المأساة الوطنية تم تخصيص جميع الإمكانيات المتوفرة لمكافحة الإرهاب وحماية الأشخاص والممتلكات، لكن الأمور تغيرت الآن مثلما يوضحه رئيس الدائرة السيد مرزاق عبيد، حيث أنه بفضل عودة الأمن والهدوء، استعاد السكان أراضيهم واستعادوا طعم الحياة وأضحت التنمية جلية بمنطقة بابور. ومن ضمن الملايير التي تم استثمارها خلال السنتين الأخيرتين، تم تخصيص أكثر من 156 مليون دج لفك العزلة عن القرى التابعة لبلديتي هذه الدائرة (بابور وسرج الغول) حيث شكلت عزلة المشاتي ”النقطة السوداء” لهذه المنطقة الجبلية الشديدة الانحدار. كما تم تسخير حوالي 500 مليون دج من طرف الدولة، خلال نفس الفترة، لتموين ذات البلديتين بمياه الشرب دون إحصاء مئات السكنات المنجزة أوالجاري بناؤها وعشرات المؤسسات التعليمية في الأطوار الثلاثة والعدد الكبير من العمليات الأخرى المتعلقة بالتهيئة الحضرية والبيئة والفلاحة والكهربة. ولم يتبق أمام هذه المنطقة، الواقعة بالجزائر العميقة، سوى العمل على تسليط الضوء أكثر على المؤهلات السياحية الهائلة لسلسلة جبال بابور وحظيرتها الوطنية ب1700 هكتار، حيث تعيش عدة أنواع من الحيوانات المستوطنة، لجأت إليها بعد فصل إفريقيا عن أوروبا. ويجزم العديد من سكان البابور بأن السياحة، حتى وإن كانت تتطلب استثمارات معتبرة (طرق ولوج إضافية وفنادق وتكوين مرشدين...)، فإنه بإمكانها أن تشكل حلا لجعل هذه المنطقة الجميلة تخرج نهائيا من دائرة الظل.