تعتبر عاصمة الشرق من بين أكثر المناطق والولايات احتفاظا بموروثها التقليدي وعاداتها المتوارثة جيلا بعد جيل، حيث لازال سكان المدينة يتمسكون بعديد التقاليد التي تعبر عن ثقافة جيل كامل، إذ لا يفوت سكان الجسور المعلقة أية فرصة أو مناسبة كانت لإحياء تراثهم وتقاليدهم لتكريس المناسبات الدينية والاجتماعية المقدسة عند الكبير والصغير. ولعل من بين هذه التقاليد والعادات؛ عادات وطقوس استقبال السنة الهجرية وحلول شهر محرم الذي يعتبر مناسبة دينية بعد عيد الأضحى، ورمزا من رموز تثمين أواصر الأخوة والتقارب بين أبناء المجتمع، فعادة الاحتفال بليلة السنة الهجرية المباركة التي تتربع على عرش المناسبات ترتبط بأعمال خير الأنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي يحتفي بها كل المسلمين ولازالت عادة يحتفظ بها القسنطينيون بصفة خاصة، فالعائلات تحيي المناسبة باستذكار القيم الروحية والتضرع للمولى عز وجل طلبا المغفرة والثواب من خلال وصل الأرحام وإخراج الزكاة والتصدق على الفقراء والمساكين وصوم هذه الأيام المباركة للتقرب للمولى سبحانه، فعادات قسنطينة العريقة عراقة صخرها العتيق متجذرة في الأعماق، فتقاليدها المرتبطة برأس السنة الهجرية "محرم" أو كما يطلق عليه القسنطينيون "رأس عام العرب"، لازالت قائمة عند الكثير من العائلات التي تحرص دائما على عادة إطعام عابري السبيل، فيما يحرص الرجال على إعمار المساجد ليلة الفاتح من محرم، ومن بين ما يميز الاحتفال بيوم محرم، قيام ربات البيوت بإعداد وليمة عشاء أو ما يسمى بعشاء محرم، من خلال الاجتهاد في إعداد أنواع خاصة من الأطباق القسنطينية المشهورة التي تعتمد فيها بالدرجة الأولى على العجائن التقليدية التي يعتمد عليها في هذه المناسبة، على غرار باقي المناسبات الدينية الأخرى التي يحلو الاجتماع حولها، على غرار "التريدة، الكسكسي والرشتة". فبعد الانتهاء مباشرة من الاحتفال بليلة رأس السنة العربية أول محرم، تبدأ العائلات القسنطينية في العد للاحتفال بثاني أهم مناسبة في نفس الشهر وهي مناسبة "عاشوراء" التي تشمل العديد من العادات والتقاليد المصاحبة لها والتي لم تتخل عنها جل العائلات، ففي اليوم العاشر من محرم، يتمسك أهلها بالصيام والاقتداء بسنة المصطفى من خلال صيام يومي التاسع والعاشر من شهر محرم أو العاشر والحادي عشر وإخراج زكاة عاشوراء بالنسبة للعائلات ميسورة الحال والمعروفة بالعامية باسم "العشور"، إذ يفضل أرباب العائلات إخراج زكاتهم السنوية في هذا اليوم الذي يعتبرونه يوما مباركا، وكذا عادة قص أو تقصير الشعر التي تقوم بها النساء اعتقادا منهن أنه "تعشير" أو قص الشعر ليطول، وهي موروث شعبي. حيث تقوم الفتيات والنساء بقص جزء من شعورهن ودفنه تحت شجرة اللواي حتى يطول ويزداد كثافة، زيادة على عادة التخضيب بالحناء التي تعد من علامات الفرح، إذ تقوم النسوة بالتفنن في وضع أشكال رائعة على أيدي بناتهن في هذا اليوم، إلى جانب قصد المقابر للزيارة صبيحة كل ذكرى عاشوراء. كما لا تغيب "القشقشة" المشهورة في عاصمة الشرق والتي تحتل مكانة مميزة في هذا اليوم، حيث يتم جمع كل أنواع المكسرات على غرار اللوز، الجوز، الفستق، التين الجاف والفول السوداني، الحلوى والتمر خصيصا لتلك الليلة. وتعرف "عاشوراء" التي ألف القسنطينيون الاحتفال بها في الشرق الجزائري انتشارا واسعا بين العائلات الغنية والفقيرة، حيث تقوم العائلات بعاصمة الشرق بشراء هذه المكسرات المعروضة في أجمل حلتها بأثمان باهظة من أجل الاحتفال، إذ تقوم ربات البيوت بإعداد وليمة عشاء وهو ما يسمى بعشاء عاشوراء من خلال الاجتهاد في إعداد أنواع خاصة من الأطباق القسنطينية المشهورة، حيث تقوم النساء بإعداد أطباق تقليدية، وعلى رأسها "الشواط" أو ما يعرف عند البعض ب«تريدة الطاجين"، فيما تفضل عائلات أخرى أكل طبق "الشخشوخة" المشهور والذي يكون مشبعا بكمية كبيرة من اللحم، كأننا في عيد الأضحى، أو طبق "التريدة" وغيرها من الأطباق الأخرى. ليبقى الاحتفال مستمرا، فبعد العشاء مباشرة تبدأ ربات البيوت بالتحضير للاحتفال بليلة عاشوراء من خلال تقاسم "القشقشة"، بتوزيع المكسرات على كامل أفراد العائلة في جو عائلي بهيج، وهي العادة التي لم تختف بمرور الوقت رغم تغير واندثار بعض عادات الاحتفال بليلة عاشوراء في المجتمع القسنطيني. وبالرغم من اختلاف الآراء حول الكيفية التي يتم خلالها استقبال هذا الشهر والسنة الهجرية الجديدة، إلا أن الكثيرون في عاصمة الشرق يجتمعون على أن المناسبة خاصة بتذكر ما حملته السنة الفارطة من أحداث وما يؤمل أن تحمله في السنة الجديدة، حيث يطمح الكثيرون إلى أن تكون بداية السنة الهجرية مليئة بالخيرات والبركة، خصوصا عند العديد من الأسر البسيطة والمحافظة التي لا تزال متمسكة بعاداتها وتقاليدها وتحرص على أن تكون احتفالاتها بأول محرم وكذا عاشوراء عادة متعاقبة بين الأجيال.