إن فضل الإسلام كبعد روحي على الثورة التحريرية، حقيقة ثابتة، يشهد بها القاصي والداني، والعدو قبل الصديق، إذ يكفي أنها طبقت أحكام الشريعة الإسلامية في مختلف المجالات. والثورة التحريرية في جوهرها قامت على مبدأ الجهاد في سبيل الله، وبروحه انتصرت، والشعب الجزائري الذي نهض بأعباء المقاومة "مسلم وإلى العروبة ينتسب"، وكاد المجاهدون أن يرتقوا إلى مصاف الملائكة المنزهين في صورة بشر أو صحابة مقربين، بسمو أخلاقهم وعلو همتهم. ولو كان هذا الزمان زمان النبوات والمعجزات، لكان الشعب الجزائري نبي شعوب هذا الزمان، ومعجزته ثورته التحريرية الخالدة. وهذا لأن ثورة نوفمبر، ثورة ربانية، وهي عودة حقيقية إلى الله، وهي ثورة جزائرية محضة وخالصة، لا شرقية ولا غربية، ثورة جزائرية في التفكير وفي التخطيط، وفي القرار وفي التنفيذ. إنها ثورة اندلعت باسم كافة الشعب الجزائري، ولم تنسب لزعيم، فاحتضنها الشعب والتف حولها وظل يناصرها ويمدها بالرجال والمال والسلاح والأخبار (المعلومات). ولم يتخل عنها لحظة حتى انتصرت حضارة باديس العربية الإسلامية على مدينة باريس ونزعتها الصليبية. إن موضوع الأبعاد الروحية للثورة المباركة، سر انتصارها وظفرها بالاستقلال، يوقظ ذاكرة الأمة ويستقرئ ماضيها الحضاري العريق الحافل بالأمجاد والبطولات وينتشلها من واقعها المنكود الذي آلت إليه، ويستشرف مستقبل نهضتها المنشود. لاسيما في هذا الوقت بالذات، الذي تميزت مظاهره بانقلاب خطير في القيم واستفحال الفتن، وطرح المغالطات التاريخية والتأويلات الإيديولوجية، والتهجم على ثوابت الأمة وقيمها الحضارية، وما صاحب ذلك من حرمان الأجيال من القدوة الحسنة ومن التشبع بتاريخها الوطني ودينها الإسلامي الصحيح. (1) ماهية البعد الروحي للثورة الجزائرية يمكن القول بأن البعد الروحي في ثورة نوفمبر المجيدة، كان أصيلا في سجل التاريخ الجهادي للأمة ومتنوعا بشموليته لأحداث الثورة ونشاطاتها وفاعلا ببعده الإيماني العميق، الذي جسده المجاهدون في واقعهم النضالي بشجاعتهم واستبسالهم في القتال وثباتهم في صفوف المعارك وثقتهم بربهم في النصر المؤزر. ونعني بالبعد الروحي للثورة؛ إلتزام المجاهدين والثوار بالقيم الإسلامية، عبادات ومعاملات وتحليهم بقوة الإيمان في جهادهم ضد العدو الفرنسي. وإن استعمال الثورة للدين الإسلامي، لم يكن تعصبا أو عنصرية، وإنما هو استلهام للقيم الحضارية الإسلامية، عكس الاستعمار الفرنسي الذي وظف الدين المسيحي منذ احتلاله للجزائر لأغراض صليبية حاقدة على الإسلام والمسلمين الجزائريين. (2) تزامن البعد الروحي والديني مع الاحتلال الفرنسي للجزائر والحقيقة التي لاشك فيها، أن فكرة الدين الإسلامي كانت تمثل بالنسبة للجزائريين القلب النابض والمحرك الرئيسي للثورة على الإستعمار الفرنسي، حتى قبل الثورة التحريرية نفسها، وذلك منذ الوهلة الأولى التي وطئت فيها أقدام الجيش الفرنسي أرض الجزائر منذ سنة 1830، والأمثلة على جهاد الجزائريين في القرن 19 كثيرة، امتدت لفترة زمنية تجاوزت 70 سنة. إذ أن المقاومات الشعبية التي خاضها الشعب الجزائري ضد الإحتلال الفرنسي، كانت تحت قيادة الزعامات الدينية بالدرجة الأولى، ابتداء من الأمير عبد القادر إلى الشيخ بوعمامة. فالبعد الديني في الجزائر بعد احتلالها من طرف العدو الفرنسي، قد مثلته الزوايا. ومن هنا، يمكن أن نعتبر الزاوية عصبا للمجتمع الإسلامي في الجزائر، وهي التي حافظت على البنية الاجتماعية، وعلى تماسك الأسرة والمجتمع، ولولاها لذابت القيم الأصيلة للجزائر في عهد الاحتلال. وليس أدل على دور الزاوية من أنه لما سقط الكيان السياسي للجزائر عام 1830، بقي الكيان الثقافي قائما بفضل هذه المؤسسة الدينية التي حافظت على الإسلام في رجوعها، رغم أن العدو الفرنسي قضى على أغلب المساجد. فهي التي مارست أركان الإسلام في دورها، وتمسكت بالتعليم العربي والقرآني، وحافظت على القضاء الإسلامي، فلم تترك الشعب يلوذ إلى المحاكم الفرنسية، فضلا عن اهتمامها بالتضامن الاجتماعي. وأعظم مسؤولية اضطلعت بها، أنها حملت ورفعت لواء الجهاد باسم الدين الإسلامي، وبفضلها تواصلت الثورات الشعبية التي قاربت 30 ثورة على مدى قرن من الزمن (1830- 1930)، كما لاننسى دورها في مقاومة التنصير المسيحي، وعلى ذكر التنصير، فإن مهاجمته الشرسة قائمة منذ سقوط نابليون الثالث سنة 1870 والحاكم العام في الجزائر "دورقيدوفن" الحاقد على الإسلام مصدر الثورات. ومن العلماء وحفظة القرآن الكريم الذين بالموازاة مع ذلك، مارسوا النضال السياسي: ❊ عمر بن قدور ونضاله السياسي من تركيا. ❊ عبد الحميد ابن باديس والمؤتمر الإسلامي ومناداته بالاستقلال الوطني ودعوته إلى الثورة أثناء حملات التنصير. إلى جانب ورود المصطلحات والرموز الإسلامية في أبجديات ونصوص الحركة الوطنية. ❊ الدعوة إلى حماية الشخصية الوطنية والدين الإسلامي. ❊ دعوة جمعية العلماء إلى فصل الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية، كما فصل عن الديانتين اليهودية والمسيحية بموجب قرار 1905، ومن هنا لا يمكننا تجاهل الدور الذي لعبته الطبقة السياسية في الجزائر من أجل التحرر من قيود الاحتلال، وهو نشاط لا يجوز غمطه، إذ يندرج ضمن ما يعرف بالجهاد السياسي. ❊ استعمال مصطلح الأمة الذي غيبته فرنسا. ❊ جمعية العلماء واختيارها لمصطلح الأمة الإسلامية 3- البعد الروحي في ثورة التحرير المباركة أ- اعتماد الثورة للرموز الإسلامية كان عمل الثورة جهادا، والمقاتل سمي مجاهدا والمقتول شهيدا، وجريدة الثورة تسمى "المجاهد". إن الجهاد في الإسلام هو ذروة سنامه وسياج مبادئه وطريق الحفاظ على بلاد الإسلام والمسلمين، وهو مأخوذ لغة من بذل الجهد (بالضم أو الفتح)، واصطلاحا هو الدعوة إلى دين الحق (الإسلام) وقتال الكفار واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان. - ولهذا كان الجهاد فريضة محكمة وأمرا ماضيا إلى يوم القيامة، مصداقا لقوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" (التوبة: 112). ووردت أحاديث نبوية شريفة كثيرة تبين فضل الجهاد، وأنه أفضل الأعمال عند الله تعالى، حيث سئل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل، ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" (رواه البخاري). - والمجاهد الذي يضحي بنفسه في سبيل الله، وفي سبيل الجماعة، والقيم الإسلامية والذود عن الوطن، يتمتع بالخلود والرفعة عند الله، حيث يجعله في مصاف الأنبياء والمرسلين. قال الله تعال في كتابه العزيز: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (آل عمران: 169- 170). ولهذا ليس غريبا أن تفرد وتخصص جريدة "المجاهد" لسان حال الثورة التحريرية في عددها الأول من سنة 1956، صفحتها الأولى لمناقشة نقطة الجهاد واعتبرت جوهر الكلمة يدل على ظاهرة حضارية، تقوم على الدفاع عن الذات للحفاظ على القيم العليا الضرورية للفرد والجماعة أو لاسترجاعها من المستعمر الفرنسي السالب. وتتعجب الجريدة في الأخير وتطرح التساؤل التالي: "أيرى الناس عجبا أن يصطبغ الإسلام بالوعي القومي، فيساهم في إظهار الحق على الباطل ويناصر قضية عادلة؟ - إن المجاهد الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي الذي وقع في ساحة الوغي، اعتُبر شهيدا وجزاء الشهيد الجنة عند الله، ولذلك لم يكن عناصر جيش التحرير الوطني يغسلون الضحايا الذين يتوفون في معارك الشرف، لأن المجاهدين في غزوات المسلمين لم يكونوا يغسلون، بل غالبا ما كانوا يدفنون بملابس الحرب، وهو شرف لم يحظ في الإسلام به غير الشهداء. - وشعار المجاهدين في المعارك ضد العدو المحتل "الله أكبر، النصر أو الاستشهاد". - وكلمة السر بين المجاهدين: علي، عقبة، خالد، عمر، أي اتخاذ خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلا يحتذى به في رباطة الجأش وصداقة البأس. - تبينها المناسبات الدينية الإسلامية. ب - الشريعة الإسلامية مصدر الأحكام - لقد أنشأت الثورة جهازا إداريا وقضائيا، لاسيما بعد مؤتمر الصومام، بديلا عن الإدارة الفرنسية لإبعاد الشعب عن أجهزته الاستعمارية. - وقد اعتمدت الثورة الشريعة وحدها كمصدر أساسي ووحيدا في جميع الأحكام التي تصدرها في القضاءين المدني والعسكري، وفي كافة المجالات دون استثناء من جنايات وجنح ومخالفات. - ولم تتأخر الثورة في الدفاع بحزم وصرامة عن حدود الله ومعاقبة كل من يتجاوزها، مهما كان موقعه أو مكانته مدنيا أو عسكريا، ضابطا كان أو جنديا بسيطا، بدون تمييز، مع الحرص الشديد على العدل في الأحكام وتحري الحقيقة، لاسيما فيما يتعلق بحياة الأشخاص وأموالهم وأعراضهم، مع السرعة في التنفيذ. ج - القيام بالواجبات الإسلامية - عبادات ومعاملات: - أعادت الثورة الاعتبار الحقيقي والملموس للإسلام بفرضها احترام أركانه، وأداء شعائره من صلاة وزكاة وصيام، ومعاقبة من يفرط فيها أو يستهين بها، أو يتهاون في أدائها، فالصلاة مؤداة والزكاة مجباة ورمضان يصام، والمال محفوظ، والدم محقون إلا بحق، والعرض مصان. الشعب بكل فئاته وأطيافه، بلغته العربية دون سواها، يشحذ عزيمته وروحه الجهادية بواسطة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين ما إن تمسكت بهما لن تضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي". - فكان الاتصال بالشعب مباشرة من طرف مسؤولي الثورة من سياسيين وعسكريين وقضاة، لاستنهاض الهمم والتذكير بواجب الجهاد ضد العدو الفرنسي وخوض الحرب والترغيب في الاستشهاد. - وقد اعتمدت الثورة لإرسال الرسالة الجهادية على آيات بينات من الذكر الحكيم، نسرد عينة منها: ❊ "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" (الأنفال 61)، "وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" (التوبة: 41) "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله". وغيرها من الآيات القرآنية، ومن السنة النبوية الشريفة نذكر: "ألا وإن القوة الرمي" وكررها النبي (صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات"، وكذلك قوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا"، وقوله أيضا: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وغير ذلك من الأحاديث. د - البعد الديني في المجال السياسي: إن البعد الديني كان متجليا في الثورة التحريرية من حيث التنظيم والتسيير على الصعيد السياسي، فمن يمعن النظر في المجال السياسي، يجد الثورة قد اعتمدت نظام المجالس محليا ومركزيا، وفضلت نظام الحكم والقرار الجماعيين، تكريسا لمبدأ الشورى، "وأمرهم شورى بينهم"، و"شاورهم في الأمر"، وهو ما جسده مؤتمر الصومام على الميدان بفضل إعادة هيكلته للثورة من الناحية السياسية والإدارية على نحو من التنسيق والانسجام بين المؤسسات المستحدثة (المجلس الوطني للثورة - لجنة التنسيق والتنفيذ التي تحولت إلى الحكومة المؤقتة منذ سنة 1958. - إحياء مفهوم الأمة من جديد كموروث حضاري بعد ضموره عقب الاحتلال بإيعاز من فرنسا وحلول مصطلحات جديدة تهدف إلى تفتيت البنية الاجتماعية للشعب الجزائري، فربطت الثورة نفسها بالعالمين الإسلامي والعربي، إضافة إلى البعد المغاربي. - تكريس النظرة الشمولية لوحدة الوطن أرضا وشعبا ولغة ودينا ومصيرا. اعتمدت الثورة على اقتصاد المجتمع والتزمت بترشيد النفقات ونبذ الإسراف والتبذير وضبط التسيير المالي والاقتصادي بإحكام، مع الثقة والأمانة في التصرف في أموال الثورة جمعا ونقلا وإنفاقا. ومن المعروف أن الأفالان قد كون مصلحة الأوقاف الاسلامية لحماية أموالها ومداخيلها وللإنفاق منها على الأئمة وطلاب العلم ومعلمي القرآن الذين جندتهم للعمل في هذا الميدان. ه - البعد الديني في المجال العسكري: قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". فمن شروط التوكل على الله؛ اتخاذ الأسباب، فلم تدخر الثورة وسعا في امتلاك السلاح المتاح، تطبيقا لسياسة (اغنم سلاحك من عدوك)، واعتمادا على مساعدات الدول الشقيقة والصديقة، فضلا عن توفير المال قصد اقتنائها. وهو ما جعل الثورة ترفع من سقف عملياتها العسكرية، التي تطورت من الحرب الفجائية وسياسة الكر والفر أو حرب العصابات (العصبة: الجماعة) إلى خوض غمار المعارك النظامية ضد العدو الفرنسي. وتجلى بوضوح البعد الديني في مدى تحلي المجاهد بالثقة في النفس وكبحها عن النزوع إلى الاستكانة والضعف وذلك باستثارة المشاعر الإيمانية بالله وحب الوطن والرغبة الجامحة في الاستشهاد مع روح التضحية ونكران الذات، والمسارعة إلى نجدة إخوانه في أخطر اللحظات. كما أعطته ثقة عالية في سلاحه، مهما كان بسيطا دون أن تخيفه طائرات العدو ودباباته وأسلحته الفتاكة والمحرمة دوليا. والتزاما بالتعاليم الإسلامية في الحروب، خاضت الثورة عملياتها العسكرية وفق الضوابط الشرعية (الحرب النظيفة واجتناب اللجوء إلى العمليات الانتحارية). و- البعد الديني في المجال الاجتماعي: يبدو البعد الديني في الحياة الاجتماعية إبان الثورة المظفرة بقوة، حيث تميز عملها بالحرص على حماية الفقراء والمحرومين واللاجئين من حيث التموين والعلاج وتنظيم عملية التضامن والتكافل الاجتماعي، ومراقبة سلامة المعاملات التجارية، لحماية القدرة الشرائية للفرد الجزائري ومنع المضاربة والغش، واختفاء الآفات الاجتماعية. وكان دفع المنح الشهرية منظما لصالح عائلات الأسرى، ومساعدة عائلات الشهداء والعناية بأجرة معلمي القرآن الكريم والمدرسين، والتي كانت تفوق أجرة الجنود والضباط السامين في جيش التحرير الوطني. - تنظيم العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الجزائري، عن طريق تكريس مبدأ الأخوة ورعاية الزواج، وتنظيم الأسرة حفاظا على التماسك العائلي ونزع فتيل الخصومات والخلافات درعا للانقسام والتشتت. - البعد الديني وبعض صفات الشهداء: إن حياة الشهداء وموتهم قدوة، ومثل أعلى، وقد عرف شهداء نوفمبر بجملة من الصفات التي تميزوا بها، من بينها الشجاعة النادرة وحب الوطن والأمة والإخلاص والصدق في القول والعمل والتضحية بالممتلكات والأزواج والأولاد... وتفضيل الموت على الحياة، وآثاروا الشهادة على الاستسلام للعدو... مع نبذهم للزعامة والأنانية والكبرياء والتسلط وتحملهم المسؤولية مهما كان ينوء بحملها لجسامتها، ونكرانه لذاته على الإسلام وشريعته وعلى المحارم وحدود الله والدفاع عنها. كما يتميز الشهداء بروح الطاعة والإنقياد وتحدي العدو وآلياته العسكرية، رغم عدم التكافؤ بين الطرفين في القوى، وكيف لا يرقى الشهيد إلى هذا المستوى الرفيع من الخلق والإيمان، وهو يسمع دوما من قادته قوله الله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم" (التوبة 112). وكيف لا يكونون كذلك والخطيب فيهم يذكرهم دائما بمقام الشهداء عند ربهم.. "ولا تقول لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون" - البقرة 154- وقوله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (آل عمران 169- 170). 4- الكرامات التي حبا الله بها الثورة المباركة: أ- ظاهرة النعاس أو كرامته قد لا يصدق البعض هذا الحديث ويعتبره من قبيل الخرافات والأساطير، ولكنها الحقيقة التي لا جدال فيها، إذ ثبت في تاريخ صدر الإسلام أن أبطال الإسلام الأوائل من الصحابة قد عاشوها وثبت باليقين القرآني كرامة النعاس الذي غشي المجاهدين في غزوتي بدر وأحد. وكذلك غشي المجاهدين الجزائريين النعاس خلال بعض المعارك الطاحنة إبان ثورة نوفمبر المباركة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه؛ النعاس أمنة من الله، وقال قتادة؛ النعاس في الرأس والنوم في القلب. قال تعالى: "... إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام". (الأنفال 11). وقال تعالى أيضا: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة ونعاسا يغشى طائفة منكم" (آل عمران 154). وفي صحيح البخاري عن أبي طلحة قال: "كنت فيمن يغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا". ب- كرامة نزول المطر من السماء إنها كرامة خص الله بها المجاهدين يوم بدر، كما حدثت للمجاهدين في الثورة التحريرية، في بعض المعارك الضارية وغالبا ما يكون مصحوبا بالضباب للتشويش على العدو وحجب الرؤية عنه. قال تعالى: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام". وقد شهد المجاهد رزوال على حدوث هذه الظاهرة والكرامة في معركة الجرف الشهيرة بتاريخ 22 - 29 سبتمبر 1955. ج - الكرامة الثالثة: هي جسد الشهيد لا تأكله الأرض، إنها كرامة ربانية فضله الله بها - أي المجاهد عند الاستشهاد، لا تنبعث منها على الإطلاق رائحة كريهة، بل أكدوا أن رائحة طيبة كانت تعبق في الجسد الكريم. - ظاهرة وكرامة الانتصار على العدو: بالرغم من انعدام التوازن والتكافؤ في القوى العسكرية بين المجاهدين (الثلة) والفرنسيين (الكثرة)، إلا أن الله تعالى كان دائما يظفرهم بنصره المؤزر لإيمانهم القوي بربهم. قال تعالى:" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". (البقرة الآية 249). ج : حكمت فرنسا على 11 مناضلا بالإعدام، حينما حل وقت التنفيذ أوصى بعضهم بالصبر والثبات وأوصوا إخوانهم السجناء بمواصلة الكفاح في سبيل تحرير الجزائر. وعندما جاء دور المناضل (بودينا) أوصاهم بالجزائر، وقال لهم: "سلموا على أمي وقولوا لها إن ابنك لم يمت لأن المشنقة لن تقتل إلا جسمه، أما روحه فستبقى تغني بحرية الجزائر وتلعن المستعمر. ولما وضع تحت المشنقة، قال له الإمام: تذكر يابني ربك وقل لا إله إلا الله محمد رسول الله، فالتفت إليه البطل وقال له: إن كنت مسلما حقا فمكانتك مع جيش التحرير، أما الله تعالى فإني أعرفه أكثر منك. د- ومن منا لا يعرف موقف حفيد الصحابي الجليل "خبيب ابن عدي" الأنصاري، إنه الشهيد أحمد زبانة أمام المقصلة، ذلك الموقف الخالد الذي سيظل صفحة مشرقة في تاريخ البطولة الجزائرية، والذي حكم عليه بالإعدام ونفذ فيه بتاريخ 18 /07 /1956 واستقبل الحكم برباطة جأش وصداقة بأس وكتب رسالة إلى أهله تفيض إيمانا وشجاعة. - طلب الصلاة قبل الإعدام وصلى ركعتين في ثبات وجلال الإيمان، مقتديا في ذلك بالصحابي الحكيم خبيب الأنصاري. - رده على الجلادين حينما عرضوا عليه الرغبة في الكلام من طرف القاضي، كان: "ليس من عادتنا أن نطلب بل ننتزع". الأستاذ: الطيب بوسعد/ قسم التاريخ بجامعة "البليدة 2"