الشيخ الأستاذ محمد مصطفى المأمون القاسمي الحسني، من الوجوه الجزائرية العلمية الساطعة التي عملت وما زالت تعمل في نشر العلم الصحيح المؤثث بأثاث شخصيتنا وأصالتنا العربية الإسلامية واقتفاء أثر أسلافنا الأماجد الذين حافظوا على هذه العلوم وتميزوا بها، خصوصا المذهب المالكي، إلتقت جريدة ''المساء'' بفضيلة الشيخ محمد المأمون وأجرت معه حوارا متنوعا فيما يخص دور زاوية الهامل في نشر العلوم، الفتاوى القادمة من الفضائيات، دار الإفتاء، حكم الإعدام وغيرها من المسائل المطروحة. فضيلة الشيخ: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم أخذ في موضوعه ردة فعل بين مؤيد وناقد ومعارض، فما تعليقكم؟ يبدو لي أن الإعجاز في القرآن في المجال العلمي، لعلنا نعبر هنا بإعجاز القرآن علميا، قد يصدق هذا الوصف على ما يأتي به القرآن الكريم من هذا الإعجاز حين يظهر هذا الإنجاز العلمي ويأتي مطابقا لما جاء في القرآن الكريم، نقول إن إعجاز القرآن في هذا الجانب وهذا الاختراع العلمي، ولعل الدكتور نضال قسوم لم يلغ هذا الإعجاز ولم ينفه، قدم ورقته وكانت ورقة نقدية، نقد فيها المنهج المتبع من الباحثين، والنقاش في هذا الموضوع ما يزال قائما، وقد يكون الدكتور نضال في ردوده ما يوضحه ليؤكد ما تصورنا هو المقصود من مداخلته القيمة التي قدم فيها نقده واستنتاجاته في هذا المجال. هناك من يشكك في دور الزوايا في مجاهدة الاستعمار الفرنسي، فكيف كان موقف زاوية الهامل من النشأة إلى الاستقلال ودورها التعليمي؟ الزاوية في الحقيقة منذ تأسيسها أدت دورها على الوجه المستطاع وحسب الظروف المتاحة، الرسائل التي أدتها منذ منتصف القرن التاسع عشر في عهد الاحتلال كانت رسالة شاملة بأبعادها المختلفة، فدورها كان بارزا في مجال التربية والتعليم بنشر العلم وربط العلم بالعمل وتهيئة طالب العلم للحياة الاجتماعية بغرس حب العلم والعمل منذ بداية خطواته الأولى بتعويده على حب الخير ليكون عضوا نافعا في المجتمع وأداة فاعلة، بهذه الميزة كان طلبتها منذ عهدها الأول حين ينتشرون في أوساط المجتمع يكونون دعاة إلى الخير وهداة إليه وعناصر إصلاح ووسائل للعمل الاجتماعي المتكامل المتكافل، هذا فضلا عن كبار أهل العلم الذين تخرجوا منها بدرجات علمية عالية وتبوأوا مواقع متقدمة في جهات مختلفة من الوطن، مربين ومعلمين وقضاة ورجال إفتاء، وبعضهم تبوأ كرسي العلم في حواضر إسلامية معروفة كالقرويين والزيتونة والأزهر والمسجد الأموي بالشام والأستانة بتركيا والحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة على سبيل المثال. أما المجال الوطني والجهادي، فالزاوية القاسمية كانت إحدى هذه القلاع كما كان شأن الزوايا الكبرى في الجزائر، وعلى وجه الخصوص الزوايا الرحمانية التي كانت زوايا علم وتربية وجهاد منذ تأسيسها، كانت مركزا للوطنيين منها انطلقوا للجهاد في ثورات جهادية متعاقبة، وهي التي أمدت هذه الثورات بالرجال والمال والسلاح وكانت لهم ولعائلاتهم الملاذ الآمن يجدون فيها الملجأ ويجدون فيها الأمن والأمان، وهكذا استمرت بعد توقف الثورات الجهادية بتركيزها على التربية وإعداد الرجال للمقاومة والجهاد، كان رجال الزاوية وشبابها خاصة من أوائل من ارتبط بالحركة الوطنية في بدايتها على يد مؤسسها الأمير ابن الهاشمي حفيذ الأمير عبد القادر، وهي علاقة كانت امتدادا للأمير واستمرت مع أبنائه، ثم كان هؤلاء أبناء الزاوية ممن اندمجوا في حركة حزب الشعب الجزائري واستمر نضالهم في الحركة الوطنية إلى حين اندلاع ثورة التحرير المباركة، وحين تطالعون كتابات هؤلاء الشباب في الأربعينيات في مجلة ''الروح'' التي كانوا يصدرونها في الزاوية، تقفون على هذا الفكر الوطني والروح الوطنية العالية التي كان يتحلى بها هؤلاء وتعكسها كتاباتهم في مقالات تناولوا فيها القضية الوطنية، فتعطي جميع هذه الكتابات وهي مقالات في مواضيع اجتماعية فكرية، ثقافية سياسية، فضلا عن بعض المسائل الدينية، صورة على مستوى التحصيل العلمي العالي، الذي كان لطلبة الزاوية الشباب القاسمي الذين كانوا يحصلون العلم في مرحلته العالية. وخلال ثورة التحرير كانت الزاوية مركزا لها، فيها تشكلت أولى لجان التنظيم والعمل الثوري برئاسة شيخها آنذاك، الشيخ مصطفى القاسمي رحمه الله، وأسندت مسؤوليتها لابنه الشيخ الخليل رحمه الله، الذي كان في طليعة مناضلي الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وشهدت الزاوية خلال هذه الثورة أحداثا ولقي رجالها وعانوا ما عانوه وقدموا ذلك كله جهادا في سبيل الله من أجل تحرير الوطن واسترجاع الاستقلال، فكان أول سجين في الجهة الشيخ خليل الذي ألقي عليه القبض في منتصف سنة ,1956 وكان أول شهيد يستشهد في الأوراس من طلبة الزاوية، وأول شهيد من الأسرة القاسمية استشهد في مطلع سنة 1956 في معركة وقعت في ناحية زمالة الأمير عبد القادر طاقين قصر الشلالة بتيارت. فضيلة الشيخ، ظاهرة الفتوى أصبحت متفشية في مجتمعنا في غياب دار الإفتاء من جهة، ومن جهة أخرى الفضائيات التي أصبحت تفتي على المباشر دون أن تلتزم بمذهب أو بواقع مجتمع، فكيف تفسرون هذه الظاهرة؟ في مجال الفتوى نحن يشغل بالنا كثيرا ما تراه الساحة الإسلامية عموما من مظاهر هذه الفوضى في مجال الفتاوى، وما ساعد على تناميها وانتشارها هو وجود هذه الفضائيات التي فتحت المجال لمن يعهد لهم بهذه الفتاوى، وهم مختلفون ومتباينون أحيانا في مستوى فقههم في الدين وعلمهم بهذه المذاهب الفقهية السنية على المذاهب الأربعة، فضلا عما يختلف فيه أئمة المذاهب فيما بينهم في مجال الفروع لا في الأصول، أضف الى ذلك بعض المذاهب المعتبرة في الأمة الإسلامية كالمذهب الإباضي والجعفري الزيدي، ما نلاحظه على هؤلاء للأسف، أنهم يجيبون عن أمور العبادات والمعاملات كان من الممكن أن يتجه السائل بسؤاله إلى إمام المسجد، وأكدنا هذه الملاحظة، فالمفتي الذي يفتي عندما يعلم بلد السائل ويعلم أن هناك مذهبا سائدا في وطنه كان الأحرى به أن يفتيه على مذهبه، وينبه إلى أن المسألة في المذهب الآخر هو مذهب هذا المستمع أو هذا الشعب، فيه اختلاف على هذا المذهب الذي يفتي به، كان من الأرجح أن يرجع السائل الى أهل العلم في بلده. باختصار، هذه الوضعية تشغل بالنا، وعرفنا كم أحدث هذا من بلبلة ومن حيرة والبعض قد يزهدون فيمن حولهم من العلماء، هذه وغيرها من العوامل التي تجعلنا نتطلع الى أفضل السبل والوسائل التي تحد من هذه الظاهرة واللجوء إلى الخارج، ومع التنبيه والتوضيح حين تكون مرجعية واحدة تتمثل في هيئة للفتوى تتألف من فقهاء متضلعين لهم ثقافة واسعة ومعرفة ببقية المذاهب أو على الأقل على أهم الفروق والخلافات بين هذه المذاهب، لأننا نتطلع الى هيئة عندما تكون مطالبة بالحكم الشرعي تحتاج الى اجتهاد جماعي يكون منها هذا الحكم الموثق المعلل الذي يعطي الجواب الشافي الكافي للمسألة المطروحة سواء في مجال العبادات أو المعاملات. يبقى تحديد الصلاحيات وتوضيحها حتى لا يكون هناك تناقض وتصادم بين الهيئات المعنية بالفتوى، دار الفتوى ينبغي أن تحدد صلاحياتها بما لا يتعارض وصلاحيات المجلس الإسلامي الأعلى باعتباره هيئة استشارية ومن مهامه إبداء رأي الإسلام في القضايا والمسائل المستجدة، وحدود هذه الصلاحيات ومواطن هذا التكامل ينبغي أن تكون واضحة ومحددة بما لا يدع أي مجال لأي تناقض أو تعارض. في السنوات العصيبة، سنوات المحنة، تضرر مجتمعنا تضررا كبيرا بفعل هذه الفتاوى الصادرة من جهات أو من شخصيات دينية عرفت في الساحة الإسلامية وكان لها الأثر السيئ فيما جرى وشهدناه في الحقبة الماضية، ومن آثارها السيئة ما نعرفه من مجتمعنا الآن من خروج عن المذهب المالكي، لا سيما في الصلاة الجامعة في المساجد، كنا فيما مضى نشهد مظاهر الوحدة في صفوف المصلين، في حركاتهم وهم يؤدون الصلاة من تكبيرة الإحرام إلى السلام، ومنذ فترة أصبحنا نشهد هذا الاختلاف بارزا في الصفوف وفي هذه الحركات من إقامة الصلاة، إلى الفراغ منها، إلى التأمين بعد الفاتحة، الى القبض الى جلسة الاستراحة، الى السجود والرفع، فضلا عن سوء هذه الفتاوى والآراء التي تتضمنها كتب ومنشورات تتوزع على أوسع نطاق، فلا تزيد الناس إلا فرقة وتشرذما وهي تروج لفكر لم ينتج للأمة إلا جفاف الأرواح وحجب القلوب كي لا يصل النور إليها، دون أن ننسى أن كثيرا من المساجد لا تدرس فيها كتب العقيدة الأشعرية ولا كتب الفقه المالكي كما كان الأمر عبر القرون، بل عوضت هذه المراجع بكتب أخرى في الفقه والعقيدة. فضيلة الشيخ، هناك شبه حرب فكرية نشبت هذه الأيام تدور رحاها حول الحكم بالإعدام بين النص الشرعي والقانون الوضعي، فما موقفكم كمرجع ديني من جهة وكمجلس إسلامي أعلى استشاري؟ هذا الموضوع وهو المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام، نظر المجلس الإسلامي الأعلى فيه في السنة الماضية، وقد عرضت هذه المسألة وبينا فيها حكم الإسلام ووضحنا ذلك في وثيقة لخصنا فيها جوابنا على المسألة، وهو في الحقيقة بيان للحكم الشرعي كما جاء في القرآن والسنة، وبينا القصاص كحكم إلهي بنص قطعي ووضحنا ذلك كما جاء مبينا في القرآن، لماذا فرض الله القصاص وكيف أنه أيضا مع فرضه - القصاص - شرع العفو وشرع الدية رحمه ولطفا بالقاتل وأهل القتيل إذا حصل الرضاء بالدية، فالله رحمة بعباده حكمه هو القصاص للقاتل وفي الوقت نفسه شرع العفو، ثم بينا أيضا كما جاء في الآية لماذا وكيف نفهم أن في القصاص حياة كما جاء في القرآن الكريم، أن الحكم الشرعي في القصاص هو حكم رادع وزاجر لكل من تسول له نفسه هذه الجريمة - جريمة القتل - بإقدامه على إزهاق الروح التي حرم الله سيكون مصيره الإعدام، فإنه لا شك ينزجر ومن ثمة يكون حياة للمجتمع، الجريمة هذه -القتل - جريمة عظمى وجناية كبرى، نستغرب هؤلاء الدعاة كأنهم يتباكون ويزعمون القصاص أنه مساس بحرية الإنسان، وأن القاتل الذي أقبل على هذه الجريمة مسّ في حقوقه، وهذا عكس القرآن وعكس نص وحق المقتول وجسامة الجرم المقترف، ولهذا القرآن الكريم يرى أن قاتل النفس هو عدو للبشرية كلها، كأنما من قتل نفسا واحدة قاتل للبشرية كلها، ولذلك من أحيا نفسا واحدة من هذا الخطر والجريمة المحتملة كأنما أحيا البشرية كلها وحفظها، لأن الله أراد هكذا أن يحفظ الحياة ويحميها من كل شر، ومن هذا المنطلق نحن نخالف هؤلاء الذين يدعون إلى إلغاء العقوبة، ومخالفتنا لهم لا تعني مصادرة للرأي أو تضييقا على حرية التعبير، وكأنما من أراد أن يعبر عن هذه المسألة له حق في ذلك، نحن نقول نؤمن بالاختلاف ونحترم الرأي الآخر ولا ندعو إلى الإقصاء ومصادرة حرية التعبير، لكن الأمر هنا مختلف، كذلك حينما يتعلق بحكم شرعي فاصل، فالأمر هنا لا مجال فيه لحرية التعبير وإبداء الرأي، هل يمكن لمسلم الاعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى؟ هذا نص لا مجال لإلغائه وليس لأحد الحق في إلغائه ولا في تعديله وتبديله، يبقى هناك شروط، العلماء فصلوا في ذلك من يتولى حكم القصاص، وبينوا مجال العفو الى غير ذلك، أما أن يتجاسر البعض على إلغاء نص فرضه القرآن فلا يحق لمسلم أن يتجرأ عليه » وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون الخيرة من أنفسهم«. فضيلة الشيخ، بما أن الزاوية القاسمية من بين المنارات العلمية الجزائرية الكبرى بما قدمته ومازالت تقدمه، شرعتم في إنجاز مشروع المجمع الإسلامي، أين وصل هذا المشروع؟ مشروع المجمع الإسلامي الذي بدأنا إنجازه منذ سنوات هو مشروع كبير كما لاحظتم، يحتوي على عدد من المرافق التربوية والإدارية ويتطلب جهودا وطاقات لم تتوافر إلى حد الآن، ولذلك جرت هذه العملية في خطوات وئيدة، انتهينا من عملية توسيع المسجد بإنجاز المسجد الجديد، قطعنا شوطا في تجديد هياكل الزاوية ومبانيها القديمة والتي تعتبر مباني تاريخية والمحافظة على طابعها المعماري لتظل على نسقها الذي بنيت عليه، أيضا أكملنا الأشغال الكبرى في دار القرآن الكريم، وهي جزء في هذا المجمع وبها مرافق متعددة وبقيت مراحل إتمام البناء، وفي هذه الأيام وضعنا أساسات لإقامة الطلبة - الإقامة الجديدة للطلبة - الذين يتواجدون في الزاوية، وهذه الإقامات تتسع ل 350 سرير وبها جميع المرافق، المطعم، المكتبة، قاعة المطالعة وبقية المرافق التربوية، وبهذه يكتمل المجمع القرآني لننتقل الى بناء مرافق معهد الدراسات الإسلامية والعلوم الشرعية، ومرافقه عبارة عن قاعات للدراسة ومدرجات وإقامة بها مطعم خاص، فضلا عن مساكن الأساتذة والجناح الإداري، أما من ناحية التمويل فهناك مساهمات ونعتمد أساسا على إمكاناتنا في حدود المتاح والمستطاع ونتلقى المساعدة من الدولة بما تسهم به في إنجاز بعض مرافق هذا المشروع، وقدر المشروع أول مرة بما يقارب 45 مليار سنتيم أي 450 مليون دينار، وقد يتغير هذا الرقم بسبب تطور الأسعار وتغيرها، هذه التقديرات كانت منذ عشر سنوات أو أكثر.