ما تزال الدهماء من الناس من تشدّ بخناق موروثنا العلمي وتجره جرا نحو الترهات وتجعله أحجية لعجائز الأضرحة وسدنة المقامات، وما يزال الراقدون تحت الأضرحة المنقوشة يتبرأون من الحكايات المغشوشة وأنهم علموا ليعلموا، وعملوا لينالوا الغرف العلية والقطف الدنية والمرضاة الإلهية، ومن هؤلاء العلماء العاملين والصلحاء الطاهرين، العلامة سيدي عبد الرحمان الثعالبي، رجل التفسير والحديث، والسيرة والجهاد والذي ما يزال يتوّج الجزائر العاصمة باسمه ورسمه، وبعلمه وفهمه، حيث خصصت له المكتبة الوطنية الجزائرية في عددها الثالث "أيام وأعلام"، ليلة علمية وسهرة معرفية تولى تدبيرها وتقريرها كل من الدكتورين الألمعين عبد الرزاق قسوم، ومحمد شريف قاهر، فنفضا عنه الغبار وأخرجه من أسطورة العجائز إلى ضوء النهار. أمين الزاوي المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية، الذي نفى عن رأسه عمامة الفقيه، وعن جسده رقعة الصوفي، إلا أنه اعترف بحبه وشغفه بهؤلاء الذين حفروا الفكر حفرا وعبدوا طريقهم في أصعب المناطق وحشة وأكثرها خطرا، فاستأنسوا بوحوشها واستلذوا مخاطرها أمثال جلال الدين الرومي، ابن الفارض، الطوسي، الأمير عبد القادر وغيرهم من أصحاب الأفكار والأسرار. الزاوي أكد في "أيام وأعلام" وفي يوم عبد الرحمن الثعالبي المشمس بأنوار رمضان والمفعم بطيب تلاوة القرآن، أنه كاتب أديب يكتب في الرواية، إلا أنه لا يغض الطرف عن هؤلاء المصابيح الذين أضاؤوا ديجور الظلام وهم كما وصفهم الرسول الكريم "العلماء ورثة الأنبياء"، ومن هؤلاء الإمام عبد الرحمن الثعالبي رمز الجزائر العاصمة والذي سيده أهلها بعلمه وتقواه وصلاحه، فكان العالم المصلح والفقيه والرياضي وطالب العلم في المشرق والمغرب. ويخلص الزاوي ليقول إن من أمثال الثعالبي "هم ذاكرة الأرض" والذاكرة ليست الماضي مطلقا، وإنما هي المستقبل أساسا. بهذه الكلمات وما بعدها، أدنى الدكتور الزاوي القطوف وأكرم الضيوف، ليتقدم بعده الدكتور الشيخ عبد الرزاق قسوم بمداخلة تحت عنوان "عبد الرحمان الثعالبي بين الوجه العلمي والتقليد العامي"، حيث قال "الشيخ عبد الرحمان الثعالبي عالم متعدد الاختصاصات، وهو عالم عامل في أمته الإسلامية، لكنه ضحية ظلم قومه حين قزموا جهده، واستولى العامة على قبره. فقد نشأ العلامة أبو زيد في بيت علم وصلاح، وكان مفسرا ومحدثا وفقيها ومتكلما وزاهدا متصوفا، لكنه ذهب ضحية مفاهيم مجتمعية خاطئة". ويرى الدكتور قسوم أنه من الضروري تخليص شخصية الثعالبي من أوهام العوام، لأن بداية الجهد العلمي هي التخلية ثم التحلية، ينبغي كشف ما نسب إليه العامة من الخرافات يقولون عنه: "إن الارض ابتلعت أناسا شتموه" ، إن الجهد العلمي والباحثين يجب أن ينصب على تقويض مثل هذه السذاجات ويعملوا على بسط جوانب تكوينه الديني والعلمي بعيدا عن الشعوذة والشطح والأغاني، لقد جسد الثعالبي قضايا أمته وبلاده. واستعرض الدكتور قسوم مشاهد من حياة الثعالبي وسيرته العلمية، والطريق الذي سكله في المشرق والمغرب طالبا للعلم ومدرسا له، مصر، بجاية، تونس، وأخذ العمل عن كبار علماء عصره، أجازوه وكان مشهورا بالحديث، حيث اذا تحدث الثعالبي أصبح أهل الحديث تلاميذ في مجلسه. وهكذا نحا بنا الدكتور قسوم نحوا لم نكن لنسلكه في الطريق الى شخصية الثعالبي، لما انتاب شخصيته من نسيج الاساطير وغلفها من الأحاجي والكرامات، فأخفى الجوهر العلمي والثمرة الفكرية لهذا الفذ المجاهد الذي شاءت الصدف أن يكون معاصرا لسقوط روضة الحضارة ودرتها الأندلس. أما الدكتور الشيخ محمد الشريف قاهر، فقد توّج محاضرته بعنوان "الثعالبي حياته وأفكاره"، استهلها الشيخ بالحديث عن صحبته للثعالبي التي دامت عقدا كاملا قائلا: "عشت معه - الثعالبي - أكثر من عشرة أعوام، وكنت أبحث عن تاريخ بلادي.. لما نلنا الاستقلال بدأت أبحث عن تاريخنا وعن تراثنا، وأثناء بحثي عثرت من خلال الشيخ عناني على أن للثعالبي كتاب في السيرة النبوية الشريفة، وجدت جزائرنا وعلماءها يبحثون عن القرآن وعلم القرآن، واللغة العربية من نحو وصرف وبيان وفقه وعلم كلام، ولم أجد من بحث في السيرة النبوية، فلما عثرت على الكتاب لم أتوان لحظة عن إزالة الغبار عنه، الكتاب عنوانه الثعالبي ب"الأنوار في آيات النبي المختار". ويضيف الشيخ قاهر في استعراضه لشخصية الثعالبي بالقول " هو عالم شهير ومحدث كبير، معروف عند أهل الفن مفسرا للقرآن الكريم تفسيرا بالرواية، وفقيه نبيه، هذا العالم الفذ هو أبو زيد ينتهي نسبه الى علي بن أبي طالب، في رواية ذكرها ابن حزم في "جمهرة أنساب العرب" متيجة وسوق حمزة بأنهم جعافرة من جعافرة الحسن المثنى، وفي رواية ثانية أنه ينتسب إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الشهيد الطيار في الجنة منقولة عن الشيخ الثعالبي، وفي رواية ثالثة لابن خلدون، تنفي أن يكون الثعالبة من الدوحة النبوية وأنهم من اليمن من معقل كعب أو ربيعة. ويقدم الدكتور قاهر حياة الثعالبي تقديما علميا، أنه حفظ القرآن الكريم في موطنه، بعده انتقل الى المتون ثم حلقات التوحيد والنحو والصرف والبلاغة. كما تكلم الدكتور قاهر عن رحلته العلمية، التي أكد أن أول رحلة له كانت الى تلمسان وخرج فيها صحبة والده واجتمع بعلمائها أمثال أحمد بن محمود، بن مرزوق التلمساني المعروف بابن الحفيد، ثم انتقل إلى بجاية فمكث بها ست سنوات ومات والده بها ودفن هناك، ثم تونس، ثم القاهرة ثم تركيا بمدينة تدعى "بورسة" جلس فيها للعطاء والتدريس، فنال إعجاب الأتراك لغزارة علمه، وأقاموا له زاوية باسمه، ثم سافر الى الحجاز حاجا ومعتمرا، وزار المدينة وجلس للتدريس والعطاء بالمسجد النبوي الشريف ولقي الكثير من العلماء، ثم عاد الى القاهرة ومنها الى تونس ثم الجزائر وعمره 33 سنة، وتوفي رحمة الله عليه صبيحة الجمعة 23 من شهر رمضان 875 ه عن عمر يناهز 95 سنة قضاها في الجهاد وطلب العلم والتعليم. بهذه الصورة وفي ليلة رمضانية مباركة، أشرق فيها نور الثعالبي من جديد على الجزائر، التي لم يغادرها وأصبحت روضة من الرياض ونافذة كما سعى إليها مفتوحة في قبره على الجنان بمشيئة الله، فرحم الله الثعالبي ونفعنا بعلمه الصحيح وجعلنا من المقتدين بعمله الصالح.