حققت فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا نجاحات كبيرة خلال الثورة بدعم جبهة التحرير الفرنسي في عقر دار العدو مما جعل سلطات الاستعمار تحاول تشديد الخناق على أعضائها. وكان قرار حظر التجول الذي فرضته فرنسا على الجزائريين بباريس وضواحيها في سنة 1961 بمثابة النقطة الذي أفاضت الكأس لدى الجالية الجزائرية بفرنسا التي احتجت على هذا القرار بخروجها في مظاهرات سلمية في 17 أكتوبر 1961 . غير أن رد السلطات الاستعمارية كان عنيفا حيث خلفت هذه المظاهرة خسائر بشرية كبيرة أسقطت عددا كبيرا من الرجال في ساحة الفداء، وهو ما جعل مجموعة من النساء يقررن توسيع هذه المظاهرات إلى باقي مناطق فرنسا خاصة غرونوبل وليون كرد فعل على ما قامت به الشرطة الفرنسية للتنديد بوحشيتها وإظهار قوة الفيدرالية وانتشارها في كل التراب الفرنسي مثلما تؤكده كل من المجاهدة قرمية فرية ومليكة بن شنوف اللتين نظمتا هذه المظاهرات في 18 أكتوبر بليون. صرّحت المجاهدة قرمية فرية ل "المساء"، أنها تلقت أمرا من مسؤولها المباشر في الفيدرالية في نفس الليلة التي وقعت فيها مظاهرات 17 أكتوبر بباريس طلب منها بتجنيد النساء من أجل تنظيم مظاهرات مماثلة بمنطقة ليون التي تعد المنطقة التي عرفت نشأة الفيدرالية. وهنا قامت السيدة قرمية في الليل بالاتصال بأب صديقة لها يدعى" باغون" وهو فرنسي لكنه كان متعاطفا مع الثورة الجزائرية من اجل مساعدتها لأن "باغون" كانت له شركة لسيارات الأجرة حيث طلبت منه قرمية التي لم يكن سنها آنذاك يتجاوز ال 14 سنة بتخصيص بعض من سياراته لنقل النساء من مقرات سكنهن إلى المنطقة التي تنظم بها المظاهرات فوافق "باغون" على ذلك واتصلت هي بالنساء الجزائريات رفقة المجاهدة مليكة بن شنوف، حيث تمكنت من جمع حوالي 450 امرأة خرجت في ذلك اليوم رفقة أطفالهن للشارع وبالضبط أمام سجن "سامبول" بليون للتنديد بقمع البوليس الفرنسي الذي شهر مسدساته وقتل وعذب واعتقل العديد من المتظاهرين خاصة الرجال في مظاهرات 17 أكتوبر بباريس وألقى بالعديد في نهر السين بعد ربطهم حتى لا يتمكنوا من السباحة فماتوا غرقا. وخرجت النساء أمام سجن "سامبول" المحاذي لمحطة النقل" بيراش" وهن تحملن العلم الجزائري الذي لا تزال السيدة قرمية تحتفظ به إلى يومنا هذا والذي أحضرته رفيقتها مليكة بن شنوف. لكن وبعد دقائق معدودة جدا من التجمهر وتعيين المجاهدة مليكة بن شنوف لإلقاء كلمة أمام المتظاهرات حتى وجدت النساء أنفسهن محاصرات من قبل الشرطة التي فتحت باب سجن "سامبول" وأدخلتهن قبل أن تنقلهن على متن سياراتها إلى سجن "فارمونو" بالمنطقة لمدة يوم كامل مستعملة العنف والضرب بالعصي مما تسبب في كسور للعديد من النساء وكذا تعرض بعضهن ممن كن حاملا للإجهاض بعد ضربهن وإلقائهن أرضا بالإضافة إلى رشهن بماء ناجس وملوث. وكانت المجاهدة مليكة بن شنوف البطلة التي يعود لها الفضل في إنقاذ العديد من النسوة من قمع وتعذيب الشرطة بعد أن ضحت بنفسها وتحملت المسؤولية لوحدها في سبيل إنقاذ باقي النساء، حيث أكدت السيدة مليكة بن شنوف في دردشة جمعتها ل"المساء" أنها لما عينت لإلقاء كلمة بالمناسبة أمام المتظاهرات صعدت فوق برميل كان موجودا بالمكان مما مكنها من ملاحظة كل تحركات رجال الشرطة الذين جاؤوا لتفريق المتظاهرات من بعيد والذين كانوا يقولون حسبها"اليوم سنشفي غليلنا بعد توقيف كل هذه النساء... " ولولا تدخل مليكة التي كانت عضوا فاعلا في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا لوقعت الكارثة فبمجرد تدخل قوات الشرطة وتوقيف وضرب النساء والزج بهن في السجن توجهت السيدة مليكة إلى حاكم الشرطة بتلك المنطقة وطلبت منه إطلاق سراح تلك النساء لأنهن بريئات وليس لهن أية علاقة بالمظاهرات متحملة المسؤولية لوحدها حيث أخبرته أنها المسؤولة عنهن وهي التي أجبرتهن على الحضور دون أن تعلمن سبب هذا التجمهر. وهنا سارعت السيدة مليكة لإبلاغ النساء بعدم تقديم وثائق إثبات هويتهن حتى لا تتابعهن السلطات الفرنسية فيما بعد. وكانت السيدة مليكة منذ سن ال 12 تنشط في إطار الفيدرالية لدعم الثورة حيث كانت توزع منشورات الثورة حول الحرية والاستقلال في علب بريد الفرنسيين بمنطقة ليون بالتنسيق مع كل من مزاري سعيد وبن شنوف الذي تزوجت به فيما بعد، كما كانت لها اتصالات مع أفراد الجالية الجزائرية بفرنسا لجمع المساعدات للثورة ونقل الإعانات والسلاح للثورة عبر الحدود الألمانية وكذا عبر سويسرا، تونس، المغرب والقاهرة. وألقي القبض عليها لأول مرة رفقة والدها وعمرها لا يتعدى 12 سنة حيث تعرضت لشتى أنواع التعذيب والضرب والاعتداء على شرفها وهو ما زادها قوة وعزيمة للنضال والجهاد والانتقام من العدو الفرنسي. واعتبرت المجاهدتان أن هذه المظاهرات هي بمثابة الضربة القاضية التي لم تكن السلطات الفرنسية تنتظرها والتي انتشرت في كل أنحاء فرنسا خاصة بمنطقتي ليون ومارسيليا. للتذكير فإن مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس جاءت كرد فعل من طرف فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا على قرار "موريس بابون" حاكم الشرطة آنذاك الذي قام بفرض قرار حظر التجول على الجزائريين بمنطقة باريس وضواحيها ابتداء من الساعة الثامنة ليلا لمنعهم من عقد اللقاءات التي كانوا يعقدونها ليلا لأن أغلب الجزائريين المقيمين بفرنسا آنذاك كانوا من الطبقة العاملة يشتغلون طيلة اليوم ويجتمعون في الليل بعد الخروج من العمل لدعم ومساندة الثورة، لذا اتخذ "موريس بابون" هذا القرار بعد اكتشاف أمرهم لتضيق الخناق عليهم. وهو قرار تجريبي كان ينوي "بابون" تعميمه على كل فرنسا في حالة نجاحه، إلا أن الجزائريين رفضوا ذلك واعتبروه خناقا للثورة واعتداء على حقوقهم فخرجوا للشارع في مظاهرات سلمية مطالبين بإلغاء قرار حظر التجول والإفراج عن المعتقلين الجزائريين القابعين في السجون الفرنسية دون ترديد أية عبارات مسيئة للحكومة الفرنسية. غير أن الشرطة الفرنسية تدخلت بوحشية وارتكبت جريمة في حق المتظاهرين حيث سجلت هذه المظاهرات أزيد عن 500 ضحية بين شهيد ومفقود. ويبقى الهدف من وراء قرار حظر التجول القضاء على فيدرالية جبهة التحرير بفرنسا نظرا لدورها الفعّال والتي كانت الممول الرئيسي للثورة الجزائرية باعتبار أن 80 بالمائة من المساعدات وتمويل الثورة كان يمر من خلالها، حسبما أكدته المجاهدة قرمية فرية.