تتشكّل الألوان فوق المساحات الممتدة لتكسر الحدود والمقاسات المضبوطة، متخذة من حرية العبور والتنقّل منهاجا فنيا وفلسفيا يعبّر عن تلقائية الإبداع الذي لا حدود له، وتتقن الفنانة مريم قزويت لغة الألوان وأسرارها وصخبها الذي يوحي بانفجار الحياة وكسرها لقضبان الجمود والرتابة، إنها ألوان ثائرة تبحث عن عوالم الميتافيزيقا التي لا تعترف بقوانين الطبيعة والمعقول. تبدو في لوحات هذه الفنانة ال23 المعروضة برواق "عائشة حداد" إلى غاية 25 ماي الجاري، أصول وتقنيات الفن التشكيلي الذي هو ثمرة دراسة وبحوث علمية معمقة عن مختلف المدارس الفنية، وعن كبار الفنانين التشكيليين العالميين، مما ساهم في تطوير ملكة الرسم عندها. تخصصت الفنانة في التجريدي، وكذا في الفن المعاصر الذي يحمل الكثير من الجماليات والتقنيات المبتكرة، كما تتقن لغة التعبير بشكل يعتمد على المنهجية العلمية، وهذا ما جسدته عبر كل أعمالها المعروضة التي تحمل الكثير من الدلالات الإنسانية والإيمائية، مع ميول خاص نحو الألوان المائية، إلى جانب المزج بين الألوان بلمسة خاصة. تبحر الفنانة بعيدا نحو عوالم الخيال كاسرة كلّ حاجز وملموس يقف في طريقها، لتسهب في تفنّنها بابتكار تقنيات عصرية تساعد على قراءة أعمق وأدق لفن التجريدي المطلق، تتجاوز الواقع الجاف الذي لا يحفز على الخيال. ترتبط هذه الفنانة عضويا بالأسلوب التجريدي الذي يحبذ التراكيب ولا يقتنع بالبسيط والسهل، وتبدو لوحتها كأنها بطبقات بعضها غير مرئي لا تدركه العين، بل الإحساس فقط، وغالبا ما يكون التركيز على العمق أكثر منها على المنظر العام والسطحي للوحة. تستعمل الفنانة الألوان القاتمة وأحيانا الفاتحة، تلعب على أوتار الدلالات والمعاني وما خفي في اللوحة، وتعتمد مريم كلية على الألوان فهي عماد اللوحة وموضوعها، كما تستعين بمواد مختلفة، منها القماش والبلاستيك وغيرهما، وتزاوج بين الأسلوب العصري المبتكر والكلاسيكي الأكاديمي، ليبقى منطلقها الأوّل الإحساس المرهف والصدق في ترجمة خوالج وأعماق النفس. ما يميّز هذه الفنانة أيضا، أنها غير فضة في لوحاتها ولا تصدم المشاهد بالألوان الصاخبة والأسلوب المبهم، وكأنّها تأخذ بيده خطوة خطوة، بطريقة تشبه السحر ليتجوّل دون أن يشعر بين تفاصيل اللوحة، ليجد نفسه أيضا ينتقل بتلقائية إلى اللوحة المجاورة. تضمّن المعرض أيضا رواقا خاصا للوحات الزجاجية ذات خلفية سوداء، مرسوم عليها بالقلم الأبيض شخصية أسطورية تتحوّل في جلستها التقليدية من لوحة إلى أخرى، ولا تختلف فيها إلاّ بعض التفاصيل الدقيقة التي قد لا تلاحظها العين المجردة، اللوحة بعنوان "لم أر لم أسمع". حضرت أيضا تقنية الرسم بالتنقيط بالأبيض والأسود، جسّدت فيها المرأة العاصمية بالحايك، كما استعانت الفنانة ببعض الرموز الأمازيغية وبأسلوب المنمنمات في لوحة أبدعت فيها من خلال تقنية التزهير. للإشارة، درست مريم ابنة مدينة بجاية بمعهد الفنون الجميلة في ولاية سطيف، درست سنتين بالمعهد جذع مشترك، أما في الثلاث سنوات المتبقية فتخصّصت في الرسم الزيتي، بعد أن كانت الأولى على مستوى دفعتها، وبعد أن تلقت أصول وتقنيات الفن التشكيلي على يد كبار الأساتذة الجزائريين، اجتهدت لتطوير قدراتها الفنية، إلى جانب قيامها ببحوث أنجزتها عن كبار الفنانين التشكيليين العالميين، وقد نظّمت العديد من المعارض بالعاصمة وبعدد من الولايات وحتى في الخارج.