يقف المؤرخ علي زيكي عند أفكار الفيلسوف طوكفيل وعلاقتها بالجزائر، ويحاول بالترجمة والتقديم عرض ما كتبه هذا المفكر اللغز وما نظّر له كداع ومبشر لاستعمار الجزائر التي وصفها بأرض الميعاد، اصطدم طوكفيل ببشاعة هذا المستعمر وجرائمه «التي لا تطاق»، لكنه لم يتراجع عن فكرة الاستيطان وظل يبرر ما يجري في سبيل المصلحة العليا لفرنسا، الساعية إلى مكانة مع أقوياء العالم بعد هزائمها على الجبهتين الداخلية والخارجية. ومن جهة أخرى، ظل هذا المنظر تائها بين الديمقراطية والاستبداد، مما كرس الكثير من التناقضات الصارخة التي حاول تركيبها عضويا رغم تنافرها، لكن رغم كل الإدانات، تظل أفكاره محل نقاش وتحمل رؤى تتجاوز حدود المكان والزمان. ❊ ما سبب اختيارك لهذه الشخصية كي تقدم أعمالها لجمهور القراء والباحثين؟ ❊❊— كان ذلك بمحض الصدفة، حينما اعترض طوكفيل طريقي وأنا أحضر ورقة تدخلي في ملتقى خاص بالأمير عبد القادر، احتضنته تلمسان منذ سنوات، ووجدت أن طوكفيل خصص صفحات من كتاباته للأمير عبد القادر، وكان يرى فيه حجر عثرة لتمرير المشروع الاستعماري على أرض الجزائر. واعتبرت اكتشاف هذه الشخصية الغريبة «غنيمة بحث» لأقرر على إثرها ترجمة نصوصه المتعلقة بتاريخ الجزائر وكيف أنه كان صوتا يبرر استعمار بلادنا. ❊ ما هي الدوافع التي كانت وراء تمسك طوكفيل بفكرة استعمار الجزائر؟ ❊❊— أسباب عديدة، منها وجود نصوص خاصة بحملة انتخابية فرنسية خاصة بالتشريعيات لدورة 1829، قدم فيها طوكفيل للشعب الفرنسي مشروعا، هو بمثابة حل لورطة فرنسا التي كانت حينها تعاني من هزات داخلية، وكانت بحاجة إلى استرجاع الهدوء للجبهة الداخلية، ناهيك عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية غير المريحة. فرنسا خسرت كل الحروب، منها حملتها على مصر، كما أن كل حملات نابليون، فشلت فشلا ذريعا فأصبحت فرنسا دولة منكسرة، بالتالي دعا طوكفيل إلى ضرورة تنصيع صفحة فرنسا المخدوشة ولن يتأتى ذلك حسبه إلا بغزو الجزائر، ومن ثمة تصدير كل هذه المشاكل الداخلية إليها، بتحويل نظر الفرنسيين إلى هذه الأرض، وهذه المهمة التي ستكون مخرجا آمنا لفرنسا من ورطتها في الداخل والخارج. ❊ اعتمدت في كتابك على عدة نصوص لطوكفيل، فكيف كان تصنيفها؟ ❊❊— هناك أربعة نصوص، والتصنيف اعتمد أساسا على المنهجية، وكان كما يلي؛ الوصف الجغرافي ويخص كل ما هو بشري واجتماعي واقتصادي وغيره، أي هو بمثابة تقرير عن الجزائر. هناك أيضا يوميات طوكفيل في الجزائر، حيث زار بها عدة مناطق، منها سيدي فرج والجزائر العاصمة والغرب الجزائري ابتداء من معسكر، ثم آرزيو، واهتمامه بالمرسى الكبير في وهران الذي رآه منطلقا نحو استعمار إفريقيا. وزار أيضا الشرق الجزائري من بجاية وجيجل وقسنطينة وعنابة وسكيكدة، وخلال هذه الزيارات كتب كل ما رأى وعاين، وقدم وصفا إثنولوجيا بأسلوب بليغ، ومن ضمن ما كتبه قوله «رأيت ما لم أره في مكان آخر»، ومما وصفه أيضا خصوصية الإنسان الجزائري، خاصة الفلاح ذو الذكاء الحاد المتفوق حسبه عن أي فلاح في منطقة الألزاس، بل إن الفلاح الجزائري أكثر شاعرية من ساكن باريس. تفانى طوكفيل في وصف الجزائر واعتبارها أرض ميعاد، وكان يغري المعمرين بضرورة الاستيطان بها، وكان يمد جسورا من ذهب نحو هذا البلد الغني والشاسع، وبذلك تفوق في وصفه على الكتاب الألمان الذين كتبوا عن الجزائر وانبهروا بها ورغّبوا هم أيضا بلدهم وأبناء جلدتهم للإقامة فيها. النص الثالث اعتبره قلب هذه النصوص، ويمثل العصب لأنه يترجم النظرة الشخصية والموقف من مسألة الاستعمار الذي يسبق عملية الهيمنة، ثم الاستيطان، بمعنى أنه يتبع عملية منهجية تبدأ بالاستيلاء على الأرض، وبعدها الهيمنة، ففرض استتباب الأمن كي يترسخ الاستيطان كمرحلة أخيرة في عملية الاستعمار. يتناول النص الرابع الوضعية الثقافية للجزائر، ويقول بأن فرنسا لو استطاعت أن تنشر «أفكار التنوير» لنجحت في مهمتها. ❊ يبدو موقف طوكفيل متحفظا من العسكر الفرنسيس، فما السبب؟ ❊❊ اعتبر طوكفيل أن العلاقة بين السياسي والعسكري متوترة، وستكون بمثابة القنبلة التي ستنفجر في وجه فرنسا، سواء كان ذلك آجلا أو عاجلا، موضحا أن جنرالات فرنسا سيتغولون على دولتهم، وسيستعملون أبشع وسائل العنف للإساءة لفرنسا. ❊ معنى ذلك أنه ندد بممارسات الجيش الفرنسي الغازي على أرض الجزائر؟ ❊❊— رأى أن هؤلاء العساكر كانوا يمارسون العنف من أجل شهرتهم الشخصية (أعمال انعزالية)، ويرون أن بسط نفوذهم بهذه الطرق البشعة سيخدم فرنسا، في حين أن دوافعهم كانت بعيدة عن أي ولاء وطني. في المقابل كان طوكفيل يتمنى نجاح الاستعمار في الجزائر خدمة لفرنسا الحرة، وللأهالي أبناء الجزائر الأصليين، وكان بذلك يردد منطقا باردا، فقناعته تمثلت في استعمار رفيع وراق «لتحضر الناس»، ورفعهم إلى مصاف «البشر» (نقلهم من حياة التوحش إلى التحضر)، والحقيقة أن كل الحروب عبر التاريخ كانت تنطلق بأفكار فلسفية هدفها «بناء الإنسان». بالنسبة لمسألة العسكر دائما، يرى طوكفيل أن العسكري يؤثر على السياسي، وبدلا من أن يكون مطيعا له أصبح الآمر. كما اتهم في المقابل الأمير عبد القادر ووصفه بالمتعصب لأنه حارب دون أن يعي، بالتالي لم يفهم حقيقة الوجود الفرنسي «المتحضر» لفرنسا في الجزائر. ظل طوكفيل يعتبر دخول فرنسا إلى الجزائر مناسبة سعيدة، ساهمت في تبييض الوجه وتثبيت الأقدام وضمان مكانة متميزة لفرنسا بين الأمم، وهي التي كانت على الهامش، علما أن كل الفلاسفة نادوا باحتلال الجزائر لقيمتها الإستراتيجية وثروتها، وكأنهم اشتموا رائحة البترول. أضف إلى ذلك، أن الجزائر قارة، وتساوي 5 مرات مساحة فرنسا، والبقاء فيها يعني استمرار فرنسا. ❊ ألا تتفقون مع من يقول إن طوكفيل جمع بين كل المتناقضات الصارخة؟ ❊❊— بالفعل، فقد جمعها بالتركيب العضوي، أي أنه جمع بين الديمقراطية والاستيطان والاسترقاق، وجمع بين مصطلحات متدافعة لا تقبل الجمع، بينما ظل يراها هو قابلة للتركيب. كما ظل متشنجا في موقفه من الديمقراطية، ويراها حكم الأغلبية السفيهة وحكم السوقة، وأنها تقيم عدالة تساهم في تسطيح المجتمع وتقضي على الطبقات، مما يولد الفتور والكسل وتراخي المجتمع، وهي مساواة لا يمكن تحقيقها لأنها تنتج إنسانا بليدا وسطحيا، بينما راهن على أرستقراطية الفكر التي لا تقيم المساواة، بل العدالة المبنية على تكافؤ الفرص، عكس الديمقراطية الجائرة التي لا توفر العدالة. والحقيقة أن طوكفيل كان من أبناء الطبقة الأرستقراطية الفرنسية، وكان المجتمع ينقسم إلى 3 أنساق هي؛ الأرستقراطية بالمولد وتعني طبقة النبلاء وتورث، وقد قضت عليها الثورة الفرنسية، وأرستقراطية الريشة أو السيف، أما أرقاها فكانت أرستقراطية القلم التي من خلالها استرجع النبلاء مجدهم. تعامل طوكفيل مع الديمقراطية على مضض، وكان يقول «أنا مشمئز منها، وأمقت الثورات التي تفسد أكثر مما تصلح، ويمكن للثورة أن تصلح دون أن تكون هناك ثورة (عنف)، بالتالي لم تحقق ما كان مرجوا منها»، وهنا يعني الثورة الفرنسية. ويضيف «في انتظار مجتمع أمثل نقبل بها من جانب حرية الفكر والمعتقد والعمل». ❊ لكن ماذا عن الديمقراطية بالنسبة للجزائريين؟ ❊❊— بالنسبة لقابلية الجزائريين لها، فقد شكك طوكفيل في ذلك من باب خصوصية «هؤلاء الأهالي»، وبنية ومناخ وظروف حياتهم بما فيها الإسلام الذي «هو عقبة في سبيل أي تقدم». وهنا تجدر الإشارة إلى أن طوكفيل كان ذو ثقافة محدودة عن الإسلام، حيث اكتفى بما قرأه مترجما، ورغم ذلك أفرد فيما بعد كتابا عن تاريخ الديانات، وسأترجمه قريبا نظرا لأهميته. عودة للتناقضات التي لا يراها طوكفيل كذلك، وأحيانا يراها مجرد عقبات، ويؤكد أن الاستعمار يضمن الاستقرار ويوطد المستعمرين الذين لا يثبتون على هذه الأرض إلا بفرض الهيمنة. بالنسبة للجزائريين، فقد أسقط طوكفيل عن الشعب الجزائري كينونته، لذلك لم يسرد قط كلمة جزائر أو جزائريين، بل اكتفى بالنكرة أي أهالي أو مسلمين، وهي كلمة فضفاضة عائمة، وبلغ به الأمر حين زار تلمسان دخل معهدا عاليا، فوجد مدرسا جزائريا مثقفا أعجب به، لكنه لم يسمه لا باسمه الشخصي ولا بهويته الجزائرية، لغرض في نفس يعقوب، إذ أن المسمى يقابله وجود على أرض الواقع، الأمر الذي يزعج. ❊ ما هي خصوصيات هذه الشخصية اللغز في تاريخ فرنسا؟ ❊❊— إنها شخصية أصيبت بالنرجسية المتطرفة (حب الذات وحب الوطن الفرنسي)، بالتالي رأى في نفسه مخلص فرنسا. كان همه استرجاع نبل مفقود من خلال الاستحقاق المعنوي وأدواره المتعددة في الجزائر، إضافة إلى كونه عضوا بالبرلمان الفرنسي، إذ كان المقرر بالجمعية الفرنسية، بالتالي ظل يبرر رصد ميزانية إضافية لفرنسا في الجزائر. كان الرجل قلقا من مصير بلاده في الجزائر، علما أن فرنسا لم تقرر مصير بقائها في الجزائر حتى بداية سبعينيات القرن ال19، حيث كان هناك جناح ينادي بالانسحاب فورا من الجزائر، لكنه دافع باستماتة لاستعمار الجزائر، كلها «خدمة للإنسانية» و»صفحة جديدة للحضارة بالجزائر»، وفي إعادة تشكيل العلاقات الدولية. ❊ استحضار كتابات طوكفيل تلقى اهتماما في فرنسا، فما السبب؟ ❊❊— لقد كانت هذه الشخصية نسيا منسيا إلى أن عادت إلى الساحة بفضل بيار منات (pierre mannet)، وهو من كبار فلاسفة الثقافة السياسية ويصدر مقالاته في مجلة متينة وراقية هي «دوكومونتير». وفي سنة 1985، أصدر مقالا يحث فيه على ضرورة العودة إلى تراث طوكفيل الفكري بعد أن نسي لعقود، موضحا أن أفكاره لا زالت قائمة، خاصة فيما تعلق بعلاقة فرنسا بالإسلام، وكذا فكرة إثارته للعلاقة المتوترة بين الديمقراطية والاستبداد. استعرض السيد بيار منات دراسة النظم السياسية الديمقراطية، وتناول فكرة طوكفيل عن الديمقراطية التي تعني استبداد الأغلبية وتسلطها على الأقلية، ومنذ نشر هذا المقال أصبحت كتابات طوكفيل ضمن مسابقة التبريز الفرنسي، واعتباره شخصية لامعة في تراث الفكر الفرنسي، وهي مقررة في المسابقات الرسمية. كما تعرض طوكفيل تعرضا بليغا إلى قضية نجاح ونجاعة الاستعمار في العالم، وكونه ظاهرة «إيجابية»، ومن ضمن ما رد به «إن فرنسا فشلت فشلا ذريعا في إقامة استعمار إيجابي، بدليل أن المجتمع المسلم بات أكثر تعاسة وأكثر تفككا وجهلا قبل أن يحتك بنا»، وهي محكمة تاريخية بليغة كان يجب على البعض، ومنهم الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي، أن يدركها قبل أن يطلق فكرة «إيجابية الاستعمار». كما أشار طوكفيل إلى أن هذا الإنسان لم يرق إلى الأنوار التي أتينا لنشرها، وبدل أن تنير لهم الأبصار عمتهم، وأضاف «الأخوة التي تشبعنا بها من الثورة الفرنسية ومن المسيحية كي نعانق الجزائريين، لم تكن لرفعهم إلى مستوانا بل لخنقهم». ❊ معنى ذلك أن طوكفيل كان تنويريا تحرريا؟ ❊❊— كل ما توفر من هذه القيم كان للمجتمع الغربي وحكرا عليه، وكان يرى طوكفيل أن الديمقراطية في أمريكا تتحقق أكثر من فرنسا، وأن هذه الأخيرة أولى لها النهج الارستقراطي. ❊ هل يحمل عملك في هذا الكتاب رسالة تريد إيصالها لقراء؟ ❊❊ أدرج هذا العمل في إطار تحرير التاريخ (decoloniser) وكذا المعارف والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة، ولا يتأتى لنا الإفلات من التبعية، إلا إذا قابلنا الخطاب الغربي بخطاب آخر يناطحه ويناقشه، وكما يقول الراحل أركون «أنجع المقاومات هي المقاومات المنطقية»، بالتالي علينا أن نطور أنفسنا بأيدينا، أما الآن فنحن مسلوبو الحرية والتفكير، وأذكر أنه لا أستاذ نبهنا للوجه القبيح لشخصية طوكفيل، كما أن الإيديولوجية الفرنسية مبنية على التعتيم والسكوت عن كل قبيح في فكر فرنسا. هناك تكتم مماثل بالنسبة لتاريخ استعمار أمريكا وقضية الهنود الحمر، وهذه التجربة أراد أن يطبقها طوكفيل في الجزائر، بل كان يرى أن الهندي قابل للتحضر أكثر من المسلم، بالتالي يحتاج الجزائري إلى استعمار وإلى ولي ووصي والذي لا يكون سوى فرنسا. ❊ هل من كلمة ختام؟ ❊❊— سعيد بهذا اللقاء مع «المساء»، وأتمنى أنني قدمت صورة موضوعية وباردة عن هذه الشخصية اللغز التي جمعت جمعا ديالكتيا بين المصطلحات المتدافعات، التي لا تقبل التقارب ومن باب أولى التجاذب والتصالح، ومن هذه المصطلحات نجد الديمقراطية والاستعمار والاستيطان والهيمنة، ثم الاسترقاق، وهي تركيبة فكرية تخدم فرنسا وحدها. ❊❊ حاورته: مريم. ن ❊❊