وقعت بين يداي، خلال الأيام الأخيرة، ترجمة جميلة جدا للجزائري إبراهيم صحراوي لكتاب "نصوص عن الجزائر أو فلسفة الاحتلال والاستيطان" المنشورة عن ديوان المطبوعات الجامعية سنة 2008. الكتاب هو عبارة رسائل ومقالات نشرها الكاتب الفرنسي المشهور ألكسي دو طوكفيل حول الجزائر. وألكسي دو دوكفيل هذا كان، كما يقول عنه مترجم الكتاب في مقدمته، لا يذكر أسمه إلا مقرونا بالديمقراطية ولا تذكر الديمقراطية إلا ويقفز أسمه إلى الواجهة. في إحدى رسائله المنشورة يوم 22 أوت 1837 على صفحات إحدى الجرائد الفرنسية والتي حررها بعد عودته إلى فرنسا إثر زيارة دراسية إلى الجزائر، يقول طوكفيل ناصحا الحكومة الفرنسية التي يبدو أنها كانت مترددة في ما ستفعله بالجزائر، بأنه "إذا كان من صالحنا أن ننشئ حكومة لعرب الإيالة، فإنه من صالحنا بصورة أكثر وضوحا ألا ندع حكومة واحدة فقط تقوم. ذلك أن الخطر سيكون أكثر من الفائدة. يهمنا كثيرا بلا شك ألا نترك العرب نهبا للفوضى، لكن يهمنا أكثر أيضا، ألا نعرض أنفسنا لرؤيتهم مصطفين كلهم وفي الوقت نفسه ضدنا (..) ما هو مسموح تأكيده حاليا بيقين هو أنه لا يمكننا أن نعاني إذا لم تعترف كل القبائل العربية في الوصاية أبدا بقائد واحد. اثنان، هم الآن أقل بكثير مما يستدعيه أمننا حاضرا والعناية بمستقبلنا، الأمر الذي يتطلب وجود ثلاثة أو أربعة على الأقل." كذلك كتب ينصح ألفيلسوف والسياسي والمفكر الفرنسي في سنة 1837. أفكار طوكفيل هي نفسها التي حولتها فرنسا على مدى 132 سنة من الاحتلال إلى ما عرف بسياسة "فرق تسد"؛ فالمفكر الفرنسي ينصح بأن لا يسمح بتوحد سكان أيالة الجزائر تحت إمرة قائد واحد وأنه إذا كان لا بد من إقامة حكومة جزائرية فيجب أن تكون مقسمة على أربع حكومات، أو تتقاسمها أربع شخصيات، مما يضمن بأنها ستكون حكومات متقاتلة متناحرة وهو ما يخدم مصالح فرنسا في الأخير. ما يثير في كلام دو طوكفيل ليس كونه يتنازل عن كل مبادئه الإنسانية وأفكاره الديمقراطية عندما يتعلق الأمر بمصالح بلاده ولو على حساب أمن ومصير شعب آخر، بل لكون هذا الكلام "النصيحة" لا زال ساري المفعول لحد اليوم، ولازالت القوى العظمى تخطط بنفس الطريقة في تعاملها مع العرب دون أن ينتبه هؤلاء إلى أبعاد المؤامرة أو يفكون خيوطها. عندما ننظر إلى ما يقع في العراق، نلاحظ أن ما خطط له الاحتلال الأمريكي ويعمل على تنفيذه هو نفسه ما نصح به دو طوكفيل حكومته الفرنسية قبل قرن وثمانية عقود. العراق اليوم مقسم فعلا إلى ثلاث دويلات متناحرة، وقد بينت الانتخابات الأخيرة كيف أن معظم القوائم الانتخابية كانت قوائم طائفية (قوائم للشيعة وأخرى للسنة وثالثة للأكراد إلى جانب قوائم أقليات أخرى) وأن كل قائمة نالت معظم أصواتها وسط الطائفة التي تنتمي إليها، وما يجري الآن من صراع على منصب رئيس الحكومة المقبل إنما هو ترجمة لواقع مزري من الصراع الطائفي الذي سيجعل العراق يضيع عقودا من الزمن قبل أن يتمكن من استعادة اللحمة الوطنية تحت قيادة عراقية موحدة. قيادة، تفضل الانتماء للعراق الكبير على التقوقع داخل الطائفة الدينية أو العرقية الضيقة، وتختار العراقي الأكفأ بعلمه وخبرته على العراقي الأقوى بعدد رجال عشيرته وقطع السلاح أو ملايين الدولارات التي تكتسبها العشيرة. وضع العراق ليس استثناءا في العالم العربي، فالمخطط الصهيوني-الغربي يهدف إلى تمزيق كل الدول العربية الكبيرة إلى كيانات متنافرة، ففي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي نشرت إحدى الجرائد الأمريكية خبرا جاء فيه أن اجتماعا عقد بين مسؤولين سامين من الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية وأن الأمريكان طلبوا من الصهاينة ضرورة تغيير سياستهم العربية بالاتجاه نحو إقامة نوع من السلم في المنطقة لأن استمرار الوضع على ما هو عليه ومع ما تعرض له الأطفال الفلسطينيون من قتل بسبب الانتفاضة أثر كثيرا على سمعة الولاياتالمتحدةالأمريكية بالمنطقة؛ وتقول الجريدة أن الإسرائيليين وافقوا على السعي نحو إقامة السلام مع العرب بشرط أن لا تبقى ولا دولة عربية واحدة كبيرة قائمة مما يهدد أمن إسرائيل مستقبلا وأنهم اقترحوا تقسيم الدول العربية الكبيرة إلى دويلات صغيرة تبقى إلى الأبد تحت رحمة إسرائيل. الاقتراح الإسرائيلي تمثل في السعي إلى تقسيم الدول التالية: العراق إلى ثلاث دويلات (شيعة، سنة وأكراد)، مصر إلى دولتين (مسلمون وأقباط)، السودان إلى دولتين (مسيحيون في الجنوب ومسلمون في الشمال)، الجزائر إلى ثلاث دويلات (بربرية في الوسط، توارقية في الجنوب وعربية لما تبقى من الجزائر). هذا المشروع يبدو أنهم بدأوا في تنفيذه مع بداية التسعينيات من القرن الماضي ولعل ما عرفته الجزائر من إرهاب فظيع يدخل في إطار تفتيت الجزائر، كما أنه يمكن تفسير إقامة ما يعرف الآن بإمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة سعي لتنفيذ الجزء الخاص بالجزائر من المشروع انطلاقا من الصحراء بعد أن فشل تنفيذه بدءا من الشمال. هذا بالنسبة للجزائر، أما بالنسبة للسودان فقد عرضوه، تحت أنظار العرب، لأزمات لا متناهية قبل أن يفرضوا عليه القبول بإجراء استفتاء لأهل الجنوب يختارون فيه بين البقاء ضمن دولة السودان الموحد أو الانفصال، والغريب في الأمر أن دولا عربية تقول عن نفسها أنها كبيرة هي من تشجع اليوم على انفصال الجنوب وذلك لتحقيق أغراض ومصالح خاصة بهذه الدولة العربية خاصة في ما تعلق باستغلال مياه النيل. السودان هو دولة عربية كبيرة فعلا بطيبة أهلها أولا وبمساحة أرضها الزراعية ثانيا وبتوفر الماء بها ثالثا وباحتياط البترول المكتشف بها رابعا .. هذا السودان سيقسم والعرب إما متفرجون أو مشجعون. أخيرا، نقول أن الطائفية لا تبني أوطانا ولا تؤسس لنظم قوية فكل ما يبنى على الطائفية أو الجهوية مآله الزوال والاندثار. الطائفية، لا تخدم سوى مصالح الأجنبي الذي يخطط لإبقاء المنطقة متأخرة ومتناحرة ومسيطر عليها علميا وفكريا وعسكريا. هذا ما تكلم عنه دو طوكفيل، وهذا ما ينفذ الآن والعرب لا يعلمون لأنهم لا يقرؤون وإن قرؤوا لا يفهمون وإن فهموا لا يتذكرون، كأنهم عمي صم لا يفقهون.