عملت فرنسا منذ أن وطئت قدمها أرض الجزائر على إفناء كل ما هو جزائري، من خلال أبشع أساليب التدمير والتعذيب والحرق التي أصبحت تسن لها القوانين وتفتح لها المدارس المختصة. حرصت الدولة الفرنسية ومنذ سنة 1830 على تطبيق وصايا »جنرالاتها الفاتحين« الذين أجمعوا على أنه من أجل السيطرة على هذه البلاد لابد من إبادة أهلها الأصليين. من هؤلاء المجرمين الجنرال »طوكفيل« (القرن ال 19) الذي وبعد انتقاده لعساكره المتهمين بقيادة حرب »غير ذكية« و» شرسة«، أصر على توبيخ هؤلاء من محبي الإنسانية الذين يستنكرون الوسائل التي يستعملها الجيش الفرنسي غازي الجزائر، يقول في إحدى مراسلاته » كثيرا ما سمعت في فرنسا رجالا أحترمهم لكنني أختلف معهم، فهم يعتبرون أنه من السيئ حرق المحاصيل وتفريغ الصوامع من الحبوب واعتقال الرجال العزل والنسوة والأطفال، لكن هذا الشكل في نظري من المقتضبات المؤسفة التي تفرض نفسها على كل شعب يريد محاربة العرب«. وبنى طوكفيل خصوصيات الحرب الواجب خوضها على طبيعة الأهالي والتي أصبحت إحدى مقومات المدرسة الكولونيالية في الجزائر. يرى طوكفيل وأشباهه أنه »على من يرغب في الاحتلال تدمير الأقاليم التي يجب اخضاعها، ومن أجل إضفاء الشرعية على هذا التدمير فإن حق الحرب يسمح بتدمير البلاد، الشيء الذي يفرض إتلاف المحاصيل واللجوء الى الغارات السريعة التي تستهدف الرجال والماشية«. وتطبيق التدابير التي أوصى بها طوكفيل يجعل من القتل والبؤس سلاحين حقيقيين للحرب ويندرجان في استراتيجية تدمير الجزائر. إن حرب الإبادة بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال قصد السيطرة على البلاد وبأرقام تفوق الخيال وقعها جنرالات فرنسا، وعلى رأسهم بيجو ابتداء من 1839 الى 1843 الذي نسف قرى وأهالي مناطق هامة من الجزائر منها المدية، وهران، قسنطينة وغيرها وضمن تقتيل ممنهج. الحرب التحريرية سجل آخر للإبادة لم تكد الجزائر تمسح أحزانها لهول ما فقدت من أبنائها في أحداث 8 ماي ,1945 حيث سلط الموت على كل ما هو جزائري وصوبت إلى القرى المدافع حتى من البواخر الراسية في الموانئ (شرق البلاد) فلم يعد للعقل ان يدرك ما حصل. تتكرر المآساة أثناء الحرب التحريرية المجيدة، حيث اعتمدت فرنسا منذ سنة 1954 والى غاية 1962 سياسة نسف القرى وتقتيل أهلها أو تهجيرهم والى غاية 1960 أي بعد 5 سنوات من الحرب هجرت فرنسا 30 ألف جزائري الى البلدان المجاورة (تونس والمغرب) وقامت بتدمير 8 آلاف مزرعة وقرية، هذه الممارسة أطلق عليها »بيلر بورديو« وصف سياسة »الاستئصال«. من جهة أخرى، قامت القوات الفرنسية بإنشاء المحتشدات ومراكز التجمعات والمعتقلات، وجمعت فيها الشعب الذي فاق عدده 3 ملايين نسمة وكله تقريبا من الأرياف، وجعلت المناطق الإستراتيجية مناطق محرمة وذلك لمنع أي اتصال بين الشعب وجيش التحرير، وهي السياسة التي وصفتها فرنسا ب»تجفيف حوض الماء ليختنق السمك«. ظلت سلطات الاحتلال تجمع الجزائريين في محتشدات وتحرق قراهم بدعوى أنهم يسكنون مناطق جغرافية وعرة لا تصلها فرنسا. لعل تاريخ 20 أوت 1955 يبقى أسود في سجل فرنسا الاستعمارية، حيث دمرت قرى بأكملها وقتّل سكانها بطريقة وحشية وانتقامية، ولم تسلم حتى بعض المدن الصغيرة والضواحي من هذا الانتقام كما حدث بمدينة عين عبيد ( ضواحي قسنطينة) حيث قتل 774 من سكانها من أصل ألف نسمة. جاء في صحيفة ''لا ديباش'' الصادرة في 23 أوت 1955» لقد هدمت قوات الأمن مشاتي ومخابئ الإرهابيين في معسكرات وادي الزناتي وجاب وعين عبيد واصبحت الحياة لا معنى لها والموت لا يزال يحوم حول القرى، لقد أنذرت العساكر الفرنسية الأهالي بالخروج من المنازل ثم قتلهم«. مشتة مبروك، بن هاشمي، العشايشية، الحاج مبروك بوادي الزناتي، مشتة كرمان بعزابة، مشاتي العولة، المابل، نرادية ورأس الماء كلها تختزن ذكريات الموت والحرق. تحمل بعض هذه الوقفات التاريخية التي لا تتحملها سطور هذا المقال، تفنيدا للادعاءات الفرنسية الداعمة لفكرة أن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان سبيلا لنشر الحضارة في أوساط الشعب، فالتاريخ يثبت بوثائقه أن الاحتلال تسبب في اقتراف جرائم هي سابقة في الإجرام الدولي كجريمة الإبادة الجماعية، فقد ارتكبت في حق الجزائريين نماذج كثيرة من هذه الإبادة منها ضرب الأهداف المدنية بالطائرات والنبالم (المحظور دوليا) وبالقصف المدفعي كما حصل في مئات القرى المنتشرة بجبال وسهوب الجزائر. هذه العمليات الوحشية التي قتلت آلاف الجزائريين وشردت آخرين وحرقتهم ودفنتهم وهم أحياء، توضح تجاوز فرنسا للقانون الدولي ومرجعياته، خاصة تلك المتعلقة بالإبادة الجماعية الموضحة في قانون سنة .1948 يبدو أن القانون الدولي الجنائي هو الإطار الوحيد اليوم، الذي يجعل من جريمة الابادة بحق الشعب الجزائري أخطر الجرائم الدولية فيجعلها لا تسقط بالتقادم مهما مر من زمن، ولا يمكن أن يتذرع المحرم بأنه ارتكب جريمته لأغراض أو بدوافع سياسية. إن مصطلح »الأهالي« في حد ذاته يعد خرقا للقانون الدولي لأنه يظهر تمييزا عنصريا واضحا يبرر الإبادة. مع كل ذكرى تعاد الحياة إلى هذه القرى التي تحكي اطلالها اليوم أبشع جرائم الإبادة وتستحضر طلعات »الطيارة الصفراء« ودوي المدافع ومداهمات العسكر. لقت بقيت هذه القرى عنوانا للثورة الجزائرية الشعبية ودافعا لأجيال تأمل في إعادة الاعتبارا لذكراها كما كان الشأن مع الراحل هواري بومدين، الذي انتقم لها بمشروع ألف قرية فلاحية.