تلعب المعالم الأثرية دورا أساسيا في الترويج للسياحة، إذ تستقطب العديد من السياح، لاسيما عشاق التاريخ الذين لهم ثقافة الاطلاع على حضارات قديمة، لمحاولة فهم الحاضر. ولعل الجزائر من بين الدول التي عرفت تعاقب العديد من الحضارات، التي تركت بها آثارا في العديد من ولايات الوطن وربوعه، في شرقها، غربها ووسطها، وكذا جنوبها الشاسع، هذه الفسيفساء دفعت بخريج معهد الآثار الدكتور محمد مسعود بورابعة، إلى مناقشة رسالة الدكتوراه حول دور المواقع الأثرية والمعالم التاريخية القديمة والإسلامية في تفعيل السياحة التنموية في الجزائر. على هامش مناقشته، أوضح الأستاذ بورابعة، الذي يعمل أيضا إطارا في الإدارة العامة للأمن الوطني، أن السياحة لها علاقة مميزة بعلم الآثار عامة، وبالآثار خصوصا. كما أن الآثار تربطها بالثقافة روابط وطيدة، وهي التي تحدّد هوية المجتمع، إذ لا يمكن فصل الحضارات التي مرت على دولة معينة عن تقاليد مجتمعها وعاداته المختلفة، وتكون السياحة الثقافية هي الباعث الأساسي لها، عبر زيارة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والمتاحف بهدف التعرف على الصناعات التقليدية، أو أي شكل من أشكال التعبير الفني والحضور في بعض الفعاليات الثقافية مثل المعارض أو المهرجانات، وتظل السياحة الثقافية المقوم السياحي الأول في الدول التي شهدت مرور العديد من الحضارات التي لها تاريخ عريق. يواصل الدكتور "لذلك فالمحتوى الثقافي الموجه للسياح، إنما يهدف إلى إنماء التنمية الشاملة، والاهتمام بهذه الدراسة ما هو إلا اهتمام بتفعيل القطاع السياحي محليا، بتوجيه المواطن والأجنبي نحو السياحة في الجزائر، عن طريق البحث عن المشاكل الحقيقية التي تعيق التنمية السياحية المحلية"، مع إبراز المقومات الكفيلة بجعل الجزائر من أكثر الدول استقطابا للسياح من ربوع العالم. لهذا لابد من تكوين مجموعة من الأطر التي يمكن من خلالها تقديم النشاطات الثقافية المختلفة التي تساعد على تشجيع السياحة الثقافية، إذ أن مفهوم السياحة الثقافية لم يعد في الوقت الحالي مقتصرا على الثروات التاريخية، وإنما طعّمت بعناصر جديدة، باستحداث مناسبات واستغلال ظروف معينة لتنويع المنتج السياحي في سبيل جذب شرائح جديدة من السائحين والزوار، بما يصاحبها من تسهيلات السفر لحضور المهرجانات والاحتفالات". المحميات التاريخية.. ميزة أساسية للاستقطاب السياحي يقول المتحدث بأن موضوع دراسة المواقع الأثرية والمعالم التاريخية ودورها في التنمية السياحية في الجزائر، موضوع جدير بالاهتمام، لعدة معطيات، أهمها حاجة الجزائر إلى ترسيخ الهوية الوطنية من جهة، والرفع من الأداء الاقتصادي من جهة أخرى. فالسياحة اليوم عامل بارز في حماية البيئة، عندما يتمّ تكييفها مع البيئة المحلية والمجتمع المحلي، من خلال التخطيط والإدارة السليمة، ولا يتوفّر هذا إلا بوجود بيئة ذات جمال طبيعي وتضاريس مثيرة للاهتمام، وحياة نباتية برية وافرة وهواء نقي وماء نظيف، مما يساعد على جذب السياح، يتساوى كل من التخطيط والتنمية السياحية في الأهمية من أجل حماية التراث الثقافي لمنطقة معينة، وتشكل المناطق الأثرية والتاريخية وتصاميم العمارة المميّزة وأساليب الرقص الشعبي والموسيقي، الدراما والفنون والحرف التقليدية والملابس الشعبية والعادات والتقاليد وثقافة وتراث المنطقة، عوامل جذب للسياح، خاصة إذا كانت على شكل محمية يرتادها السياح بانتظام، فتتعزز مكانتها وتتطور، كل ذلك يرجع إلى الطريقة التي يتم بها تنمية السياحة وإدارتها. يضيف بورابعة أنّ مواقع السياحة الأكثر نجاحا في الوقت الحاضر، تعتمد على المحيط المادي النظيف والبيئات المحمية والأنماط الثقافية المميّزة للمجتمعات المحلية والمواقع الأثرية والمعالم التاريخية المحمية، أما المناطق التي لا تقدم هذه المميّزات، فتعاني من تناقص في نوعية وكمية السياح، وهو ما يؤدي إلى تناقص الفوائد الاقتصادية للمجتمعات المحلية، والسياحة في الوقت الحالي تعتبر موردا استثماريا هاما جدا، حيث أن إجمالي نفقات السياحة الأثرية والتاريخية يمثّل من عشر إلى خمس الدخل الإجمالي لبعض الدول ذات الريادة السياحية. إنشاء مسارات سياحية جديدة.. ضرورة أشار المتحدث إلى أن فكرة استحداث المناسبات المحلية، مثل إحياء المسالك الأثرية المحلية والدولية بكل ما كان عليها من برك وآبار وخانات وشواهد وأعلام، بطرازها القديم وأشكالها التاريخية، تهدف إلى تعزيز السياحة الثقافية، والمسارات الدينية ومسارات الرحالة المشهورين، وطرق الحج والقوافل القديمة، حيث اقترح الدكتور إنشاء مسارات سياحية جديدة في كل المناطق، سواء بالسير على الأقدام أو باستخدام الحافلات السياحية، مشيرا إلى أن إحياء المسارات يساهم في توسيع المناطق السياحية المتنوعة التي تحتوي على مقوّمات سياحية مختلفة تساعد على تطوير التنوع السياحي. يؤكد محمد مسعود بورابعة أنّ التراث بكلّ عناصره، يعد أحد الجوانب المهمة للإرث الحضاري الذي تعتزّ به الأمم، لما يبرزه من صور أصيلة، إلى جانب صقل هوية المجتمع بكل ما يحمله من عادات وتقاليد وثقافة. ولأهميته، حرصت الدول على زيادة الوعي بدوره كمصدر ثقافي واقتصادي، والتعرّف على سبل حمايته وإعادة استخدامه ضمن إطار معاصر، من خلال وضع الأسس والمعايير التخطيطية والتصميمية التي تساهم في إظهار قيمته وأهميته في التنمية الاقتصادية وتوظيفه كرافد أساسي من روافد السياحة. نظرا لأهمية الأمر، يضيف المتحدث، أصبح من الضروري دراسة تأثيرات وتداعيات الأسلوب التقليدي لصناعة السياحة، بعدما يكاد يصبح فكرا عقيما، نتيجة عولمة هذا النشاط وارتباطه بمنظومات الاستثمار السياحي العالمية، الخاضعة لاقتصاديات السوق المفتوحة التي تهدف إلى تحقيق الأرباح، دون الالتفات إلى القيم الرمزية والتعبيرية وحفظ الذاكرة الجماعية للمجتمع، كعامل نفسي وحضاري يضمن الاستمرارية والتواصل الحضاري للشعوب. يضيف الدكتور أن فكرة الخوض في موضوع دور المواقع الأثرية والمعالم التاريخية في تفعيل السياحة التنموية في الجزائر، جاءت خدمة للآثار والتاريخ والسياحة على حدّ سواء، إذ لم تعد هناك إستراتيجية واحدة للتنمية السياحية تعتمدها جميع الدول، بل صارت هناك استراتيجيات موجهة، تعتمد الأسس العلمية السليمة والقدر الكافي من الموضوعية والخبرة السياحية التي يمكن اختيار الأفضل منها، بما يتناسب مع الظروف الطبيعية، المناخية، البيئية، التاريخية، الاجتماعية، الاقتصادية والتمويلية الخاصة بالمقصد السياحي وما يتلاءم مع المنتوج السياحي ككل. كما تطرق الدكتور في مناقشته إلى العديد من المعالم التاريخية التي تشكّل "الأقطاب السياحية" البارزة للعديد من الشعوب، التي تعتبر أيضا من المراجع الأساسية للعديد من الدراسات، لفهم الحضارات السابقة التي ساهمت في تشكيل البنية الكاملة للمجتمع، وما هو إلا دليل على الغنى الحضاري الذي تزخر به الجزائر، حيث خصص الدكتور منها ثلاثة مواقع أثرية تمثل ثلاث مراحل تاريخية وجغرافية وعمرانية، قام بزيارتها ميدانيا من خلال المعاينة والدراسة، وتبيّن أنها المناطق الأكثر جذبا للسياح، وبإمكانها أن تصبح أقطابا سياحية ذات قيمة فعلية في تنمية المناطق المحاذية، وتكون دليلا ماديا على أهمية الآثار في السياحة والتنمية، التي ستترك انطباعا إيجابيا لدى القائمين على هذا القطاع، وعموم الفاعلين، رغبة منه في أن تكون هذه المواقع مختلفة في الموقع والزمان، بداية بالمدينة الأثرية والضريح الموريتاني لتيبازة اللذين يعودان إلى الفترة الرومانية القديمة، وقلعة بني حماد الأثرية بولاية المسيلة من العصر الإسلامي، ثم القصبة العتيقة بالجزائر العاصمة من الفترة العثمانية. مشيرا عبر مذكرته إلى أن ذلك ما هو إلا جزء صغير من الآثار التي تزخر بها الجزائر سواء في شرقها، غربها، وسطها وحتى جنوبها الكبير. السياحة كبديل لقطاع المحروقات إن دراسة موضوع المواقع الأثرية والمعالم التاريخية ودورها في تفعيل السياحة التنموية في الجزائر في الوقت الراهن، يعتبر بحق أحد الرهانات الإستراتيجية، سواء بالنسبة للباحث الأكاديمي المختص في دراسة الآثار أو التاريخ أو الباحث عن خيارات أخرى، للرفع من الأداء الاقتصادي والمالي للبلاد، خصوصا بعد الأزمة الاقتصادية التي تمر بها خلال هذه الفترة، وانخفاض سعر البترول وغياب بديل أساسي تعول عليه الدولة لرفع الدخل الوطني ومجابهة الأزمة. باعتبار الجزائر بلدا شاسعا يحتوي على العديد من المواقع والمعالم، بقي من الضروري ترقية السياحة والتنمية، بهدف دفع عجلة التنمية الاقتصادية من خلالها، يوضح الدكتور، بعيدا عن الطموحات الوطنية، خاصة على مستوى المهتمين بتفعيل السياحة كمصدر للاستفادة من العملة الصعبة خارج قطاع المحروقات، ومن الواجب على الباحثين الغوص في العلاقة الوطيدة بين الآثار والسياحة والبحث في تطوير دور الآثار في السياحة والعكس، لأن السياحة الثقافية اليوم تمثّل العمود الفقري لاقتصاديات الكثير من الدول، لما لها من فائدة اقتصادية ملموسة وفائدة قومية من خلال تجذّر الهوية وبث روح الاعتزاز والفخر في نفوس مواطنيها. كما أبرز الدكتور بورابعة دور الأمن بمختلف أجهزته في الحفاظ على الممتلكات التاريخية والثقافية والآثار التي خلفتها الحضارات السابقة، باعتبار أن تهريب تلك الممتلكات جريمة تتمثل في محاولة سرقة ممتلكات الدولة، وكذا محاولات لطمس هوية وطنية. تتردد على مسامعنا في كل مرة، أخبار حول إحباط محاولات تهريب قطع أثرية من طرف مختلف الأجهزة الأمنية، إذ تعتبر هذه الجريمة من أكثر الجرائم المسجلة في المدن التي تعتبر معبرا تاريخيا للحضارات، وكذا المدن المتواجدة على الحدود. استرجاع أكثر من 85400 قطعة منذ 2005 باعتبار الدكتور إطارا في الأمن الوطني، فإنه أفرد نقطة مهمة في بحثه، وهي دور أجهزة الأمن في السياحة الثقافية وتأمين الثروات الوطنية في هذا المجال، والمساهمة في التنمية الشاملة والمستدامة، من خلال توفير البيئة الأمنية المناسبة، حيث أكّد أن المديرية العامة للأمن الوطني تقف بالمرصاد لكلّ الشبكات الإجرامية التي تعمل على محاولة تهريب أو الترويج للقطع الأثرية، من أجل البيع والمتاجرة بها، مشيرا إلى أن العديد من الشبكات الإجرامية تمت الإطاحة بها، لمحاولة تهريب العديد من القطع الأثرية ذات القيمة التاريخية والمادية لها. المتحدث أوضح قائلا بأن ظاهرة تهريب القطع الأثرية القديمة تكلّف جميع دول العالم الملايير، باعتبارها تشمل قيما مادية جد باهظة تقيّم حسب الحقبات التاريخية والندرة، تباع بعضها أحيانا في مزادات عالمية "غير رسمية"، تكون بمثابة سوق سوداء لهذه التجارة، يختص أحيانا فيها مجرمون مختصون في تهريب الآثار، وأوضح أن الجزائر بدورها تعاني هذا الأمر، إلا أن السلطات الأمنية لا تتساهل مع هذه القضية. للإشارة، تمّ استرجاع منذ عام 2005 أكثر من 85400 قطعة مصنفة تراثا وطنيا، سرقت من المتاحف أو المواقع الأثرية، لاسيما بشرق وجنوب الجزائر، حسبما علم من وزارة الثقافة، وأفاد بيان لمديرية تأمين الممتلكات الثقافية بالوزارة، أن القطع التي تم استرجاعها تتمثّل في قطع نقدية ومجوهرات عتيقة مصنوعة من الذهب والفضة، إلى جانب قطع مصنوعة من الزجاج والبرونز والعاج، وتماثيل صغيرة مصنوعة من الطين، وقناديل وكؤوس وأجزاء تعود إلى حقبات تاريخية مختلفة. الجدير بالذكر أن هذه المناقشة عرفت حضورا قياسيا للأساتذة وإطارات الأمن الوطني، على رأسهم مراقب الشرطة سيفي محمد الذي أبرز أن الغرض من الحضور هو تثمين قضية السياحة في الجزائر، مبرزا بذلك أهمية تناسق جهود مختلف القطاعات لتفعيل دور السياحة في التنمية الاقتصادية، مع وقوف مديرية الأمن الوطني في سبيل مجابهة ظاهرة تهريب القطع الأثرية التي تعتبر أحد معالم الهوية الوطنية.. ❊نور الهدى بوطيبة