لم يكن قطاع الاعلام عن منأى من الأزمة المالية التي شهدها الاقتصاد الوطني منذ منتصف 2014، بعد الانخفاض الكبير الذي شهدته أسعار المحروقات. وألقت الأزمة بظلالها على أغلب وسائل الاعلام لكنها كانت أصعب على الصحافة المكتوبة التي تأثرت بشكل كبير إلى درجة اختفاء 60 عنوانا عن الساحة الاعلامية في ظرف ثلاث سنوات. لكن بعض القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية ورغم تجربتها القصيرة في الميدان لم تسلم هي الأخرى من تأثيرات الأزمة. وأكد وزير الاتصال جمال كعوان، في العديد من المناسبات على ضرورة إيجاد حلول بديلة تكفل صمود الصحافة، مشيرا إلى إمكانية استخدام صندوق دعم الصحافة. ويرى خبراء وناشطون في المجال أن تغيير طرق التسيير وفتح المجال أمام الابتكار وكذا ضبط القطاع تنظيميا وتشريعيا لابد منه، لتحرير الطاقات وإعطاء وزن لصحافة تهلهلت تاركة الساحة لمنافسين أجانب. وكانت أولى بوادر الأزمة تراجع المبيعات وتراجع مصادر الاشهار العمومي والخاص التي أدت إلى اختفاء 60 عنوانا عن الساحة الاعلامية منها 34 أسبوعية بعد توقفها النهائي عن الصدور، حسب تصريحات وزير الاتصال جمال كعوان، الذي اعترف صراحة بتأثير الأزمة على الاعلام وبشكل أكبر على الصحافة الورقية. ويحصي المشهد الإعلامي في البلاد 140 صحيفة لكن الوزير توقع أنها لن تسلم من شبح الإفلاس ليس فقط بسبب الأزمة المالية وإنما كذلك بسبب الزحف التكنولوجي الذي جرته شبكة الانترنت ولاسيما شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت وسيلة سريعة لنقل الإخبار. ولهذا فإن السيد كعوان، لم يتردد في القول إن "الصحافة الكلاسيكية ولاسيما الصحافة المكتوبة، قد تأثرت حقيقة وبشكل مباشر بالأزمة المالية التي تمر بها بلادنا ما تسبب في اختفاء عدد من المنابر"، مضيفا "أكيد أن هناك عناوين ستختفي... إنها نتيجة حتمية، لابد من إعادة النظر في النموذج الاقتصادي...أنه واقع عالمي، فبعض الجرائد العالمية اختفت وبعضها الآخر تحول إلى الإصدار الإلكتروني، لابد إذا من إعادة التفكير في مهنة الصحافة، لأن الأنترنت فرض سرعة نقل المعلومات". وواقع الحال يشير إلى أن تأثر الصحافة المكتوبة جاء نتيجة لجملة من العوامل منها الأزمة المالية وفتح قطاع السمعي البصري على الخواص، فضلا عن تأثيرات الانترنت ولاسيما شبكات التواصل الاجتماعي على سرعة نقل الأخبار وتوسع انتشارها. وفي هذا المشهد الاعلامي المتنوع فإن الاشهار الذي يعد أهم مورد مالي لوسائل الاعلام، أصبح بشحه موزعا بين عدد أكبر من الأرضيات الاعلامية، واستقطب الفضاء السمعي- البصري عددا هاما من المعلنين بعد أن لجأ إلى "كسر" الأسعار. رغم ذلك فإن بعض القنوات سريعا ما باءت تجربتها بالفشل وأعلنت إفلاسها، وهو نفس المصير الذي عرفته بعض المواقع الإلكترونية الحديثة النشأة. وهو ما يعني أن للأزمة جوانب متعددة يجب تحليلها لايجاد المنافذ المناسبة لها. وزارة الاتصال تراهن على صندوق دعم الصحافة وزير الاتصال جمال كعوان، كان قد أكد بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للصحافة في أكتوبر الماضي، عن إمكانية استخدام صندوق دعم الصحافة الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية، مشيرا إلى أن كيفية استخدامه هي قيد الدراسة لإيجاد الصيغة الملائمة التي يتم اعتمادها في تقديم الإعانات المالية، متوقعا أن يتم تحديد هذه الصيغ خلال السنة الجارية. وأوضح أن صندوق دعم الصحافة يهدف لمساعدة وسائل الإعلام الوطنية التي تضررت من آثار الأزمة الاقتصادية وتراجع الإشهار، وهو قرار تم اتخاذه ضمن الإجراءات المتخذة لمواجهة الأزمة التي تعيشها البلاد. بالمقابل، فإن الوزير أشار إلى وجود تشاور للخروج بنظرة جديدة وإيجاد نموذج اقتصادي للصحافة الوطنية بعد تراجع الإشهار لاسيما بالنسبة للصحافة المكتوبة، علما أن الإشهار الخاص يمثل نسبة 80 بالمائة من سوق الإشهار فيما يمثل الإشهار العمومي الذي يبقى دعما قويا وأساسيا للصحافة نسبة 20 بالمائة فقط. وفي هذا الصدد يتم التحضير لمشروع إقامة المجمعات الصحفية الثلاثة الخاصة بالصحافة العمومية من أجل إعطاء دفع لهذه الأخيرة التي لم تكن بمنأى عن الأزمة كما قد يعتقده البعض. الخبير عبد القادر مشدال: الأزمة فرصة للعودة لأساسيات الصحافة وبالنسبة للخبير الاقتصادي عبد القادر مشدال، ما تحتاجه الصحافة اليوم هو "الرجوع إلى أساسيات العمل الصحفي وتحسين منظومتها التسييرية ومنتوجها في الصيغتين الورقية والإلكترونية وكذا محتواها لاعطائها نفسا يبقيها في السوق". واعتبر الخبير في تصريح ل«المساء" أن المشكل الذي نعيشه اليوم ناجم عن اعتماد الاقتصاد الجزائري في شقيه العام والخاص على النفقات العمومية. وقال"بعد تحسن الوضع المالي للبلاد زاد الاتكال على المشاريع العمومية بصورة مفرطة". وهو نفس المنطق الذي عاشته الصحافة التي استفادت من البحبوحة المالية بفضل ارتفاع عائدات الاشهار العمومي والخاص على السواء، بعد انتعاش القطاع الاقتصادي والانفتاح الذي شهدته على الاستيراد والاستثمارات الأجنبية. لكن تراجع الصفقات العمومية أثر كما أضاف محدثنا على المؤسسات التي لجأت إلى تخفيض ميزانية الاشهار كأول إجراء، وهو ما يعني اللجوء إلى اختيار دقيق للعناوين التي تمنح لها الإعلانات. لكن الخبير اعتبر أن الاشكال لاسيما بالنسبة للجرائد هو أن الأخيرة لم تقم ببناء سمعتها في السوق على أساس "المقروئية"، وإنما فضّلت الحلول السهلة وهي "الاعتماد على الاشهار دون تطوير مقروئيتها أو محتواها". ولهذا فإنه قال إن الأزمة تعد "درسا للرجوع إلى أساسيات العمل الصحفي". وبالنسبة لمنافسة الجرائد الإلكترونية التي وصفها ب«المنافسة الشرعية" فإن السيد مشدال، اعتبر أنه "لا شيء يمنع الجرائد الورقية من التحول والتلاؤم مع التطورات الحاصلة تكنولوجيا". وهنا أوضح أن الحل يكمن في "الإبداع والأفكار الجديدة التي بامكانها إنقاذ العناوين الصحفية". فالجرائد مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى "لتحسين منظومتها التسييرية ومنتوجها في الصيغتين الورقية والإلكترونية ومحتواها لاعطائها نفسا يبقيها في السوق". والابتكار يمتد كذلك إلى طرق التمويل التي قال إنها يمكن أن تكون في فتح رأس المال أو البحث عن شركاء جدد، فضلا عن طرق جديدة للتسيير والحوكمة داخل المؤسسة، وكذا صيغ جديدة لعرض وبيع المنتوج "وهي حلول صحيحة لكل المؤسسات مهما كانت طبيعتها وأينما كان تواجدها" كما شدد عليه. الاعلامي طارق حفيظ: الصحافة الإلكترونية لا يمكنها حاليا المنافسة من جانبه أكد الاعلامي المستقل وصاحب موقع إخباري إلكتروني متوقف طارق حفيظ، أن الأزمة التي يعيشها الإعلام اليوم، ناتجة عن تقليص ميزانيات الاتصال والاشهار داخل المؤسسات التي تعاني من الأزمة المالية. واعترف أن الأزمة مست على وجه الخصوص الصحافة المكتوبة قائلا "هناك الكثير من المعلنين لاحظوا أن مبيعات الصحافة المكتوبة تراجعت، فوجهوا إشهارهم للمواقع الإلكترونية لأنها بدأت تأخذ حيزا هاما في المشهد الاعلامي، إضافة إلى القنوات التلفزيونية الخاصة التي تقترح عليهم الاشهار لمنتجاتهم في حملة تدوم مدة شهر بقيمة تساوي صفحة واحدة فقط في أهم الجرائد الوطنية"!. وتأسف في السياق لكون قليل جدا من الصحف فقط استطاعت أن تنشئ مواقع إلكترونية جيدة و«لا أتحدث هنا عن مواقع تعرض النسخة الورقية ومحتوى الجريدة، وإنما مواقع مستقلة تفاعلية تتضمن صورا وفيديوهات وربطا بصفحات في الشبكات الاجتماعية ...الخ" كما أوضح. لكن حتى الصحافة الإلكترونية لم تسلم من الأزمة فماهي الأسباب؟ سؤال رد عليه بالقول إن المشكل يعد أولا تنظيميا وتشريعيا لأنه منذ 2012 يعترف المشرع بالصحافة الإلكترونية في قانون الإعلام إلا أن النصوص التطبيقية لم تصدر بعد، وبالتالي لا يوجد أي موقع معترف به رسميا. ومانعيشه اليوم هو وجود مواقع إلكترونية إخبارية جزائرية يتم توطينها بالخارج ولاسيما في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدةالأمريكية، وبالتالي لا يمكن وصفها بالجزائرية أو يتم إنشاؤها عبر وكالة اتصال. وعن تجربته الشخصية اعتبر أن الموقع الاخباري الإلكتروني الذي أنشأه كان تجربة جيدة، إلا أنها اصطدمت بنقص الاشهار "الذي لم يسمح لنا بالاستمرار لأسباب اعتبر أنها ذات علاقة بخطنا الافتتاحي خصوصا". ويحذّر الإعلامي من خطورة ترك الفراغ القانوني بالنسبة للصحافة الإلكترونية الذي تستغله كما قال مواقع إخبارية أجنبية ومنها مغربية للترويج لأخبار كاذبة، لذا دعا إلى فتح المجال أمام الكفاءات الوطنية للعمل وإثراء الساحة الاعلامية. حنان حيمر الأستاذ أحمد حمدي عميد كلية الصحافة: قانون الإعلام بحاجة إلى تحيين وفق دستور 2016 دعا الأستاذ أحمد حمدي عميد كلية علوم الإعلام والاتصال أمس، إلى مراجعة وإثراء قانون الإعلام الصادر عام 2012 حتى تتماشى وتنسجم مواده مع تعديلات دستور 2016 الذي يمنح حرية أكبر في التعبير والصحافة. وأكد عميد كلية الإعلام خلال مداخلة له بمنتدى جريدة "الشعب" بمناسبة إحياء اليوم العالمي لحرية التعبير الموافق ل 3 ماي من كل عام، أن دستور 2016 يعد مكسبا كبيرا جدا للصحافة الجزائرية بما تضمنه من مواد تكرس حرية التعبير. وهو ما جعله يعتبر قانون الإعلام الحالي قد أصبح منتهي الصلاحية، وبحاجة إلى تجديد وإثراء وفق ما ينص عليه الدستور الذي تبقى مواده أقوى وأعلى من مواد القانون العضوي. وقال إن الدستور الحالي تضمن 13 مادة تتحدث عن حرية التعبير ويتجاوز مضمونها سقف الحرية الموجودة في قانون الإعلام الساري المفعول، بل إنه أكثر من ذلك، أكد أن الدستور يعد أكثر حرية من القانون المسير لقطاع الإعلام. وقدم عميد كلية الإعلام أمثلة عن المواد التي تضمنها الدستور على غرار المادة 38 التي تتحدث عن حرية البحث والوصول إلى المعلومة والخبر.. وصولا إلى المادة 50 منه، بما يتناقض تماما مع المادة الثانية من قانون الإعلام التي تنص على أنه "يمارس نشاط الإعلام بحرية في إطار أحكام هذا القانون العضوي والتشريع والتنظيم المعمول بهما في ظل احترام قوانين الجمهورية والدين الإسلامي وباقي الأديان...."، وهو ما اعتبره السيد حمدي "حشوا وكلاما" أعطى الشعور بأنها تفرض قيودا على حرية التعبير أكثر من أي شيء آخر. وقد أكد حمدي في هذا السياق أنه لا توجد حرية مطلقة، كما أنه لا توجد خطوط حمراء بالنسبة للصحافة، بل هناك قناعة ومسؤولية يجب على الصحفي ومحرر المقال والمسؤولين في الإعلام التمتع بها وتحملها. وأضاف أن الصحافي مطالب بالتأكد من صدقية الأخبار التي ينشرها ولا يجب عليه التسرع في نشر المعلومة دون التأكد من صحتها. ومن أجل تفادي حدوث انزلاقات والوقوع في الأخطاء، شدد عميد كلية الإعلام على أهمية إخضاع الصحافي دوريا للتكوين والرسكلة التي تبقى من الضروريات لترقية وتطوير مهنة الإعلام، مذكرا في هذا السياق بأن القانون يفرد على المؤسسات الإعلامية تخصيص نسبة من ميزانيتها من أجل تكوين صحفييها. وفي رده على سؤال حول مصير الصحافة المكتوبة في ظل التطور الذي تشهده الصحافة الإلكترونية، أقر حمدي بوجود مشكل مطروح بالنسبة للصحافة الورقية التي تعيش أزمة، ليس فقط في الجزائر، بل في العالم أجمع. وقال إن الانتشار الواسع للمواقع الإلكترونية والخوف على الصحافة الورقية هي مواضيع مطروحة على الباحثين ومؤسسات الإعلام للنقاش والبحث، مشيرا في هذا السياق إلى أن بعض الباحثين يتوقعون زوال الورق ليس فقط بالنسبة للصحافة وإنما عبر كل الإدارات والمؤسسات حيث يجري التوجه حاليا نحو الرقمنة. غير أنه أكد أن مشكل الصحافة الورقية مرتبط في الجزائر أيضا بمسألة الإشهار الذي أثر سلبا على بعض الجرائد وأدى إلى إغلاقها في الفترة الأخيرة، بما يتطلب حسب حمدي تنظيم سوق الإشهار خاصة أنه لا توجد قوانين تضبط العملية الإشهارية وقال إنه "حان الوقت لتقنين هذا المجال". وليس فقط مشكل الإشهار الذي يحتاج إلى ضبط وتقنين، بل أيضا مسألة التوزيع التي أكد عميد كلية الإعلام أنها جد مؤثرة على الصحف، بل عبّر عن قناعته بأن الموزعين هم المتحكمين في الصحف. وفي الأخير، اعتبر عميد كلية الإعلام التقرير الأخير الذي أصدرته منظمة "مراسلون بلا حدود" والذي صنف الجزائر في ذيل القائمة في مجال حرية التعبير بالمجحف. ص.محمديوة