صدر مؤخّرا عن المؤسّسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار كتاب تحت عنوان "مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخيين (1929 1962)"، سجّل فيها العقيد الطاهر زبيري مسيرته النضالية والجهادية من المهد إلى الاستقلال، المذكرات تكشف عن الكثير من الحقائق والخبايا، كما أنّها تسلط الضوء عن الكثير من الأمور التي مازال يدور حولها النقاش ويكتنفها نوع من الجدل. مازالت الثورة الجزائرية تصنع الحدث التاريخي وتلقي بثقلها البطولي على الساحة الثقافية حتى تفنّد بموضوعية بعض الشطحات التي تتحرّك على إيقاعات التشكيك التي مازال البعض يتشبث بها ويثيرها من فترة لأخرى بأنّ الاستعمار الفرنسي استعمار حضاري، وأنّ الاستقلال الذي انتزعته الثورة بدماء ملايين الشهداء هو منحة ومنّة من الرئيس الفرنسي شارل ديغول. مذكّرات العقيد الطاهر زبيري حين يتفحّصها القارئ، يشعر بالصدق والبساطة والاسترسال في الحديث وكأنّه يشاهد فيلما أومسلسلا دراميا متصاعدا في مشاهده، مكثّفا في أحداثه، مليئا بالصور والمفاجآت، بالآلام والجراحات والدموع والبطولات الخارقة. بداية المذكرات تصوّر المجتمع الجزائري في الثلاثينيات من القرن الماضي تصويرا مأساويا بائسا إلاّ أنّ هذا التصوير يعتمد على الومضات السريعة واللقطات المكثّفة في أماكن متعدّدة التي كانت مسرحا لعائلة الطاهر زبيري في الشرق الجزائري، والتي كانت في لهث دائم وراء لقمة العيش وسدّ الرمق في سنوات الحرب والنار، الحرب العالمية الثانية، ثمّ تتحدّث عن النضال السياسي والإعداد النفسي والتكويني والوطني الذي انبثق منه جيل الثورة المسلّحة، وتعطي هذه الصور لمحات مقتضبة، لكنّها عميقة عن الإعداد للثورة والنضالات التي عرفتها الحركة الوطنية الجزائرية في "حزب الشعب الجزائري" و"أحباب البيان" و"من أجل انتصار الحريات الديمقراطية"، إضافة للأحداث الدموية الرهيبة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال في حقّ الشعب الجزائري في كلّ من سطيف، قالمة، خراطة، الجزائر العاصمة وسعيدة وغيرها من المدن الجزائرية في مباشرتها التقتيل الجماعي الذي حدث في الثامن من شهر ماي 1945 بمناسبة انتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الثانية. كما تطرّقت المذكرات إلى تشكيل المنظمة الخاصة بقيادة المرحوم محمد بلوزداد والسطو على بريد وهران وانكشاف المنظمة الخاصة والانشقاق الذي حدث بالحزب وخلّف شرخا كبيرا، ناهيك عن الانتخابات والتزوير الذي قامت به سلطات الاحتلال، كما تنقلنا المذكرات إلى الإعداد للثورة وجلب الأسلحة المتبقية من الحرب العالمية الثانية من ليبيا إلى غاية القبض على البطل مصطفى بن بولعيد بالتراب التونسي والحكم عليه بالإعدام وقصة فراره من سجن "الكدية" مع عشرة من إخوانه المجاهدين ومن جملتهم العقيد الطاهر زبيري. إنّ رواية الفرار جاءت في مذكرات الزبيري بدّقة متناهية، وذاكرة حية لم تضعف رغم مرور الزمن منذ اندلاع الفكرة في ذهن مصطفى بن بولعيد وعرضها على رفقائه وتشكيك البعض في نجاحها واعتبارها من المستحيلات، إلى القسم على المصحف ووضع خطة الفرار في مرحلة التنفيذ في انطلاق عملية الحفر، ثم الفرار، حيث انتهى اللقاء بين صاحب المذكرات وبن بولعيد بعد أن تواعدا باللقاء إلاّ أنّ الظروف كانت غير مواتية رغم المحاولات العديدة، ويستشهد بن بولعيد، ويؤكّد الزبيري أنّ استشهاده كان غامضا، كما يذكر أنّه تمّ التكتّم على استشهاده لمدة زمنية، ويروي زبيري أنّ بن بولعيد قبل فرارهم من السجن نصح وبإلحاح المجموعة التي فرّت معه بعدم لمس أوالتقاط ما يخلّفه العدو في أرض المعركة أوغيرها من الأماكن حتى ولو كان قلما لأنّه قد يكون ملغّما، ومن هنا يتساءل زبيري "عن كيفية وقوع بن بولعيد ضحية لشيء كان يحذرّنا منه ؟". مذكرات الطاهر زبيري مكثّفة ومليئة بالأحداث والمفاجآت والعمليات العسكرية الجريئة، وكذا الدسائس والمؤامرات وتصفية الحسابات، ويصوّر البناء الثوري الذي بني على الأعراش والمناطق والجهات، ثمّ التنافس بين القادة على القيادة والسيطرة على المناطق، وفي كثير من المرات تتحوّل المنطقة إلى مركز نفوذ لهذا الشخص أوذاك، ومن هنا تبدأ التصفيات الجسدية بعدّة مبرّرات للقضاء على المنافس. لم يعرض الطاهر زبيري النواحي الإيجابية للثورة فحسب، بل ركّز أيضا على النواحي السلبية وهي كثيرة، ومن خلال هذا التركيز حاول أن يقول أنّ المجاهدين ليسوا بملائكة أوأنبياء، بل هم بشر يرتكبون الأخطاء ربّما الجسيمة، منها ما كان عن عمد، مثل التصفيات والاغتيالات التي كانت تقع هنا وهناك. المذكرات تناولت أيضا الإعداد للثورة وجمع الأسلحة وشرائها أوالاستحواذ عليها بالقوّة إن تطلّب الأمر، ثم تناولت أيضا القادة الستة وال 22 وبيان أوّل نوفمبر واندلاع الثورة وساعة الصفر. الكتاب الذي يدور على مساحة ورقية قوامها 335 صفحة بالفهرس والوثائق والصور من القطع العادي، قسمه المؤلّف إلى 14 فصلا مع ملاحق وحوار أجراه معه كاتب المذكرات الصحفي مصطفى دالع. الفصل الأوّل من الكتاب تحدّث فيه زبيري عن طفولته وأسرته الفقيرة، والده معلّم القرآن الكريم، حيث أكّد من خلال ذكر عائلته أنّها تنحدر من أصول أمازيغية فقيرة لكنّها محافظة ومتديّنة، ثم يذكر في هذا الفصل تنقّل العائلة بعد أن أرهقتها ضرائب الاحتلال باحثة عن لقمة عيشها الصعبة والشاقة من مكان إلى آخر في الشرق الجزائري، كما يذكر كيف كان يحضر مع شقيقه وهو صغير اجتماعات خلايا حزب الشعب. الفصل الثاني وعنونه ب "البحث عن وطن" سجّل فيه نضاله السياسي، بل تكوينه ليخرج من خلاله إلى الفصل الثالث الذي تحدّث فيه عن اندلاع الثورة وعنونه ب "الطريق إلى الحرية" ثم أعقبه بالحديث عن السنوات الأولى في الفصل الرابع "فجر الثورة"، أمّا الفصل الخامس فقد ذكر فيه الشهور التي قضاها في الاعتقال والحكم عليه بالإعدام، ويروي في الفصل السادس قصة الهروب من سجن "الكدية" مع مجموعة المحكوم عليهم بالإعدام مع البطل الرمز مصطفى بن بولعيد، أمّا الفصل السابع فخصّصه لرواية قصة إعدام جبار عمر، الفصل الثامن روى فيه قصة استشهاد مصطفى بن بولعيد حسب الروايات التي سمعها. كما تروي المذكرات التحضير للاجتماع الذي كان متّفقا عليه من أجل تقييم الثورة في سنتها الأولى والذي كان مفترضا انعقاده في المنطقة الشرقية إلاّ أنّه انعقد في الصومام، وعنون الفصل التاسع ب "الأوراس يغيب عن الصومام"، أمّا الفصل العاشر فتحدّث فيه مطوّلا عن القاعدة الشرقية والمعارك الطاحنة التي دارت فيها معركة معركة. وفي الفصل الحادي عشر روى العقيد زبيري في مذكراته انقلاب العقداء، ليتناول في الفصل الثاني عشر "مهمة مستحيلة" والفصل ما قبل الأخير خصّصه لآخر قادة الأوراس، ويختم فصول الكتاب بالفصل الرابع عشر الذي عنونه ب "الانتصار الضائع". مذكرات العقيد الطاهر زبيري مكثّفة بالأحداث والشخصيات والمعلومات، حيث يصعب تلخيصها في موضوع أوتقديمها في قراءة إلاّ إذا كانت شاملة باعتبار أنّ هذه المذكرات ما هي إلاّ قراءات سريعة وموجزة لأحداث كثيرة ومتزاحمة ومتداخلة تغطي مساحة كبيرة من الزمن ومن الثورة ومن الأحداث التاريخية. ولهذا يمكن تقسيم هذه المذكرات إلى ثلاثة أبواب، الطفولة والنشأة، النضال السياسي، اندلاع الثورة والكفاح المسلّح المطعّم بكثير من الجوانب السياسية الدقيقة والمهمة والخطيرة. المذكرات في مجملها تنفض الغبار عن كثير من الحقائق وتزوّد الدارسين والمختصّين بحقائق جديدة ومهمة وشهادات حية حول رجال صنعوا ملحمة الثورة منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر إلاّ أنّهم صدقوا وصابروا وجاهدوا وانتصروا وحقّقوا الهدف الأكبر الذي اندلعت من أجله الثورة ألا وهو السيادة الوطنية والاستقلال الكامل والتام للجمهورية الجزائرية.