* email * facebook * twitter * linkedin أجمع خبراء على أن الإصلاحات التي عرفتها الجزائر في المجال المالي منذ ثلاثين سنة، لم تكن ذات فعالية ولم تمكن المنظومة البنكية من التطور وتحسين خدماتها، ما ساهم في تفاقم ظاهرة الاقتصاد الموازي من جهة وانتشار الفساد المالي بطريقة غير مسبوقة من جهة أخرى. واعتبروا أن تدارك هذا الوضع يتطلب وضع كفاءات شابة في مناصب المسؤوليات على مستوى البنوك، لإنجاح مسار الرقمنة وتحديد أهداف للإصلاح بمدد معينة، مع القيام بعملية تقييم دورية لإصلاح الاختلالات والنقائص. وقال الدكتور في الاقتصاد عبد الرحمان عية ل"المساء" إن البنوك ساهمت "بطريقة ضمنية" من حيث تدري أو لا تدري في انتشار الفساد المالي، وذلك لعدة أسباب، منها سماحها بتحويل القروض الممنوحة لرجال الأعمال من شكلها "الكتابي" إلى شكلها "الحقيقي". وأوضح في هذا الخصوص "أن الكتلة النقدية التي هي من وسائل الدفع، تتكون أساسا من نوعين من النقود، العملة الحقيقية المتمثلة في الأوراق والمعدن، وما يعرف بالنقود الكتابية التي هي عبارة عن أرصدة تتحرك على مستوى البنوك. وفي الاقتصادات الطبيعية، 90 بالمائة من الكتلة النقدية هي نقود كتابية، وبالتالي كلما وضعنا النقود في البنوك بدل استخدامها في شكلها الحقيقي، باستعمال أدوات الدفع المختلفة، سواء الصك أو السفتجة أو وسائل الدفع الإلكترونية كبطاقات الدفع أو الأنترنت أو الهاتف النقال، فإننا نترك الأرصدة في البنوك". ويرى محدثنا أن اللجوء إلى تحويل العملة الكتابية إلى عملة حقيقية يعد السبب في اللجوء إلى طبع النقود أو التمويل غير التقليدي ببلادنا، إذ يقول في هذا الشأن "إذا كانت هناك سيولة في البنوك وتحرك عن طريق أدوات الدفع، لا نحتاج لطبع النقود. والمشكلة في الجزائر أن الناس الذين تمنح لهم القروض أي رجال الأعمال، يطلبون تحويلها إلى نقود حقيقية". هذه الظاهرة حسب الدكتور عية راجعة إلى جملة من العوامل، ذكر منها "ثقل المعاملات البنكية" و«انعدام الثقة بين عالم الاقتصاد وعالم البنوك" و«الحاجة إلى استخدام السيولة في أمور أخرى"، ما أدى إلى "ظهور الفساد المالي". واعتبر في المقابل أن رفض إعطاء السيولة لهؤلاء واستبدالها بالصك أو البطاقات البنكية، سيؤدي إلى "تراجع الفساد المالي ونقص تمويل الاقتصاد غير الرسمي"، كما يسمح ب«تسجيل كل المعاملات الاقتصادية والمالية". البنوك ساهمت ضمنيا في انتشار الفساد وأشار الأستاذ عية إلى أن هذا الوضع جعل البنوك تساهم "ضمنيا بدون أن تعلم بذلك" في ظاهرة الفساد، "لأن الثقل المصرفي الموجود حاليا يدفع الناس إلى تفضيل المعاملة بأدوات الدفع الحقيقية، بدل الأخرى وكلما يتطور الأداء البنكي، كلما يتقلص اللجوء إلى وسائل الدفع الحقيقية وتكثر المعاملات الأخرى، وبالتالي تكون هناك ديناميكية في الاقتصاد الوطني"، كما أضاف. وبرأيه، فإن معالجة هذا الوضع يتطلب مواصلة الإصلاح البنكي "بإدراج كفاءات شابة ليست لديها عقدة من التعامل الإلكتروني، ضمن مناصب مسؤولة في البنك، حتى يتم تحريك الأمور، لأننا نعترف بتجربة مسؤولي البنوك الحاليين، لكن يجب القول إنه ليست لديهم القدرة الكاملة على التكيف مع الوضع الحالي، المتميز برقمنة كل المعاملات". وبخصوص قدرة الصيرفة الإسلامية على المشاركة في إصلاح القطاع البنكي، رد الدكتور عية بالقول إن اللجوء إليها يعد "أمرا ممتازا"، معللا ذلك بوجود كتلة نقدية خارج الإطار الرسمي يرفض أصحابها إدراجها في البنوك، بسبب المعاملات البنكية التي لا تتوافق والشريعة الإسلامية. وقال في هذا الصدد "مؤخرا، صدرت نصوص قانونية تسمح بإتمام المعاملات المالية الإسلامية ونأمل أن يكون هناك استقطابا للأموال الموجودة خارج الإطار الرسمي، ولكن هذا غير كاف لأنه لابد من إصلاحات بنكية وإصلاحات جبائية وترسانة من القوانين الأخرى، حتى يتم التحكم في الأموال الموجودة خارج البنوك". من جهتها، اعتبرت الأستاذة في معهد الاقتصاد مليكة صدوقي أن الانتقال في بداية التسعينيات من النظام الاقتصادي الموجه إلى اقتصاد السوق القائم على العرض والطلب وميكانيزمات الأسعار والمنافسة، "فرض القيام بإصلاحات في الاقتصاد، بما فيها الجوانب المتعلقة بالمالية والمعاملات البنكية. وهذا ما قامت به الجزائر عن طريق تغيير قوانينها مثل قانون النقد والقرض الذي سمح بوضع أسس المنافسة وفتح بنوك أجنبية وبنوك جزائرية خاصة، وكذا تغيير طريقة عمل البنوك". لكنها أشارت إلى أنه بعد 30 سنة من بداية الإصلاحات، ما يلاحظ اليوم بالنسبة لوضع القطاع المالي، هو أن "المنافسة قليلة جدا، إذ توجد 6 بنوك عمومية فقط تسيطر وحدها على أكثر من 90 بالمائة من سوق القرض، بخدمات لا ترقى إلى المستوى. وبما أن المنافسة قليلة، فإن الكثير من الزبائن حسب المتحدثة يشتكون من أدائها". وهذا لا يعني أنه لا توجد نقاط إيجابية، لكن الانطباع العام يوحي بوجود تأخر في هذا المجال". هيكلة الاقتصاد تؤثر في أداء البنوك واعترفت محدثتنا بوجود "مجهودات"، لكنها اعتبرت أن الإشكال يكمن في "هيكلة الاقتصاد الوطني بصفة عامة". فهذه الهيكلة، حسبها، "لم تشجع للذهاب نحو الدفع غير النقدي، لأن جزء كبير من المعاملات التجارية والاقتصادية تتم خارج الإطار الرسمي، حيث يقدر الخبراء حجم الاقتصاد غير الرسمي بحوالي 45 إلى 50 بالمائة من الناتج الداخلي الخام". لذا، فإن محاولات الإصلاح البنكي حسبها لن تكون مجدية بدون مسايرة كل القطاع الاقتصادي لها "وهذا سيأخذ وقتا.."، لكنها اعتبرت أن البداية تمت وأن ما يحتاج إليه القطاع هو الاستمرار في الإصلاحات، بشرط أن يتم ذلك في إطار "رؤية شاملة"، أي أن تسير كل القطاعات الاقتصادية في نفس الاتجاه، لأن الملاحظ اليوم هو غياب التنسيق والتناسق في السياسات الاقتصادية الموضوعة، ما خلف وضعا يتميز بوجود قطاعات تسير بشكل جيد وأخرى لا، مثلما أضافت. والأهم من ذلك هو "تحديد أهداف بجدول زمني"، حيث اعتبرت محدثتنا أن أي إصلاح بدون أهداف محددة في الزمان، لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج فعّالة. وقالت في هذا الصدد "لا بد من تحديد أهداف ومحاولة تحقيقها وتحليل أسباب عدم التوصل إلى ذلك ووضع الأساليب التي تسمح بتحسين الوضع، أي يجب أن نعمل على مرحلية". كما طرحت الأستاذة مسألة أخرى تتعلق بضرورة وضع نظام يعمل على "التحفيز" بدل "فرض العقوبات"، لاسيما حين يتعلق الأمر بفرض طرق جديدة في التعامل، حيث أكدت أن هناك بحث دائم عن مدى الاستفادة من أي نظام جديد، ولذلك فإن اقتراح مزايا من أشكال مختلفة مع القيام بحملات تحسيسية يمكنه في مرحلة أولى أن يشكل دافعا لتبني سلوكات جديدة، "وبعدها في مرحلة أخرى يمكن اللجوء إلى العقوبات".