فى شتاء الأغاني أشياء كثيرة نحبها، طعم البرتقال بأريجه المنعش، عطر المندرين الذي لا نمله···، السحب البيضاء التى تشبه هالات القطن الرمادية الكثيفة بغموضها، وفى موسيقاه نشعر أحياناً ببرق خاطف تتوارى من خلفه صواعق الرهبة والخوف، عبق الجو فى صباح بارد أو ليلة ممطرة، تأتي من بعدهما شمس عفية، تتسلل من بين خيوطها الذهبية مساحات من الدفء، الذى يمنحك سعادة لا نهائية على إيقاع ربما يكون صاخبا مضطربا أو حتى ناعما حزينا هو موسم أو فصل مميز بتنويعاته وتقلباته، وهو ما يجعلنا في النهاية أو يجبرنا أحياناً على الاستمتاع به، فيكفي أنه يسمح لذكرياتنا من خلف ستائر لياليه الموحشة بالخروج من صناديق الذكريات القديمة، جالباً معها مواطن الدفء فى ثنايا تلك الأشياء الصغيرة والأغنيات الرشيقة عبر موسيقى نابعة من أوتار عود أو ناي حزين أو كمان شجى··· ومع ذلك فالمتتبع للمكتبة الغنائية العربية سوف يكتشف بأن شعراء القرن العشرين لم يتطرقوا - إلا قليلاً لللأغاني الشتوية - نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: مأمون الشناوي الذى كتب عام 1949 أغنية " الربيع" التى لحنها وغناها الموسيقار الكبير فريد الأطرش، وفى مقطع واحد منها أشار إلى الشتاء، وربما يكون الاستثناء الوحيد فى القرن العشرين وحتى الآن، هو "الأخوان رحبانى" اللذان أبدعا لوحات تشكيلية غنائية ثرية على مستوى الكلمات والألحان، وتوجت نجاحها السيدة العظيمة فيروز فى العديد من الأغاني التى تلهب الخيال· وعلى الرغم من تجاوز عدد أغنيات سيدة الغناء العربى وكوكب الشرق أم كلثوم ال 400 أغنية، فلم تشدو بمقطع واحد عن الشتاء، وكذا الحال مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذى غنى للصيف والبحر والإجازات ولم يغنى للشتاء· في نهاية القرن الماضى وتحديداً مطلع الثمانينيات، بدأ شعراء وكتاب الأغنية الحديثة، توجيه قريحتهم الشعرية نحو فصل الشتاء وغنى لهم محمد الحلو، على الحجار، مدحت صالح، كاظم الساهر، محمد منير، هويدا، حنان ماضي، داليدا رحمة وغيرهم، قصائد من الشجن المحبب والذى يعكس أجواء الشتاء، وأخيرا إليسا في أغنيتها الحالية "أواخر الشتا"· لكن ما السر فيما مضى·· ترى هل يؤثر المناخ في نفسية الإنسان، خاصة الشعراء وكتاب الأغانى، وهل يمكن أن تصيب تغيرات المناخ شعراء الأغنية بالكآبة، ولماذا يصيب هذا الاكتئاب البعض من دون الآخر مادامت الظروف المناخية سواء للجميع، ولا تخص فردا بعينه من دون الآخر؟ يقول الدكتور هشام رامي أستاذ الطب النفسى: تؤكد الدراسات العلمية الحديثة أن حالات الاكتئاب تزيد فى الشتاء عنها فى أي موسم آخر، وحتى الذين لا يعانون الاكتئاب تنخفض عندهم الحالة النفسية والمزاجية، وربما يكون تفسير ذلك نابعا من أنه بدخول فصل الشتاء يصبح النهار قصيرا بينما الليل طويلاً نسبيا، وبالتالى تقل عدد الساعات التى يتعرض فيها الإنسان للضوء، ولأن الضوء هو المسؤول عن إنتاج المواد الكيمائية المسؤولة عن الحالة المزاجية للفرد، فكلما زادت ساعات التعرض للضوء كلما اعتدلت الحالة المزاجية، والعكس صحيح، فقلة الضوء تؤدى إلى حالة من الحزن والشجن ويقل معدل السعادة، وبالمناسبة، لا يقتصر الأمر على الإنسان وحده، بل إذا نظرنا إلى الطبيعة بكامل تفاصيلها في الشتاء، سوف نلحظ أنها أيضاً في حالة كآبة·· أوراق الشجر تتساقط·· الطيور والحيوانات تدخل فى حالة بيات شتوى رتيب يؤدى إلى الكسل، وهذا إن دل على شيئ فإنما يدل على أن الشتاء فصل مقرون بالسكينة والحركة البطيئة، وهذا بالطبع ينعكس على الشعراء - وهم أكثر حساسية - عندما يكتبون أغانيهم التى تقل في عددها بالطبع فى الشتاء، تأتي مفرداتهم مشحونة بالشجن والحزن، والميل إلى أن تكون قصائدهم أو أغنياتهم عبارة عن حكايا وقصص درامية وعلى قلتها فإنها تكون بمثابة مضادات حيوية ضد نوبات البرد، وهى بالتأكيد تجنح نحو صندوق ذكريات الحزن والرحيل والغربة· ويتفق مع تفسير الدكتور هشام، الشاعر الغنائي وائل هلال صاحب أغنية "مهما الشتا قسى"، والتى غناها مدحت صالح ولحنها فاروق الشرنوبي، يقول هلال : "الشتاء هو الفصل الوحيد الذى يسمح فيه للإنسان أن يجلس أكبر وقت مع نفسه، فهو مقرون بالانطواء نظراً لبرودة الطقس الخارجي، وبالتالي عندما تتاح للإنسان فرصة الخلوة المفروضة عليه - رغم أنفه - يرجع بخياله إلى الوراء يبحث ويقلب في الذكريات ويغوص في دهاليز الماضى البعيد، وغالبا ما تكون تلك الذكريات مرتبطة تارة بالانكسارات أو أخرى بالانتصارات، وفي كلتا الحالتين، تبدو حساسية الشاعر الذى يتأثر بهذا الجو الذي ينعكس على الكلمات وحسب الحالة المزاجية يأتي الحديث ذا شجون·· "يوم حلو ويوم مر"، ويبدو ذلك من خلال الطقس الذى لا يدوم على حال، فبعد الرياح والأتربة سرعان ما يجئ المطر لغسل الشوارع ويزيل الغبار من شوارع الذاكرة، ويصفي الأجواء فتبدو الدنيا في حلة جديدة ومبهجة للقريحة الشعرية وتعتدل الحالة المزاجية، ومن هنا ربما يتجلى إبداع الفنان الشاعر والموسيقي والمطرب، وينجحون معاً فى جلب الدفء - أو الشعور به على الأقل - من خلال نسيج فني يحدث تلك المتعة الروحية لإنسان ربما جعلته الأجواء الباردة معزولاً في مكان بعيد تطارده مواطن أحزانه، لكنها تتفاعل مع شجن الكلمة والموسيقى الناعمة والأداء العذب، فتزيح الهم وتزيل الكرب، وتمنح الإنسان قدرة تحريضية على التفاعل مع عناصر الحياة بانكساراتها أو هزائمها، وقد تذهب به إلى تجاوز أخطائه وجراحه، ومن قلب الأسى يمكن للإنسان أن يتلمس مسارات أفضل للحياة· أما سر الحزن الكامن في أغاني الشتاء، فيرجع إلى ذلك الغموض الذي يسيطر على مجمل لوحة الطبيعة الشتوية، وهو ما يغري الذاكرة على استدعاء الماضي الجميل، وعلى الرغم من ذلك فنجد أغاني الشتاء تعتبر نادرة، وحتى فصول السنة الأخرى لا تحظى باهتمام كتاب الأغنية الجدد الذين يتطرقون في كلماتهم إلى كل ما هو حسي ومادي، غير عابئين بعناصر الطبيعة التى تتمتع بثراء وخيالات بديعة· ويؤكد الشاعر عماد حسن صاحب "فات الشتا" من ألحان محمد ضياء وغناء داليدا رحمة، على صعوبة تذوق أغاني الشتاء من قبل غالبية مطربي هذا الزمان، كما يقول عبد الفتاح، على الرغم من أن تلك النوعيات من الأغاني تتميز بالشياكة إلى حد أنها تشعرك بمجرد سماعها أنك ترتدي أفخم الملابس، عبر الكلمات الموحية والصور والأخيلة والزخارف اللغوية التى تصنع الثراء والغنى، فتجلب المتعة والدفء للمتلقي الذواق، ويعود ذلك إلى أن الشتاء مقترن بالوحدة والتأمل العميق في مفردات الكون المشحون بالذكريات، وربما كان ذلك سبباً مباشراً للحزن الذي يكسو غالبية الأغاني الشتوية ، التي تتشح بثوب الشجن اللذيذ والمحبب· فصل الشتاء فيه زخم هائل جدا يضيف عماد حسن: "يدفع الشاعر إلى الغوص فى ملكوت السماء وسمائه الملبدة بالغيوم، ولعل البرق ورزاز المطر هما أكثر عناصر الطبيعة من وجهة نظري للولوج نحو الكتابة، ففى ظل أجواء كتلك يصعب على الناس مغادرة بيوتهم، فتغمرهم السكينة والهدوء وخلف الجدران والشبابيك يتأملون هذا الطقس البديع بشغف، وإذا لم يتوفر للإنسان فى تلك اللحظات نديم أو صديق أو حبيب يسامره ويزيل عنه غيوم غربته، فسوف يجنح بخياله إلى الماضى وتتسلل خيوط الذاكرة من بين ثنايا حبات المطر، وعلى أثر البرق الخاطف تلتقط القريحة الشعرية أجمل خيالات الكلمة المكتوبة التى تجلب معها رياح دافئة تسري في الجسد المتوار خلف زجاج النوافذ المسكونة بالصقيع"· وقد أبدع القيصر كاظم الساهر في تحليل الحالة المزاجية والكآبة الحادة التي تعتري وجدان العاشق في غياب الحبيب، من خلال أغنية أنشودة المطر التي يقول في مطلعها "أخاف أن تمطر الدنيا ولست مع··· فمنذ ان رحلت وعندي عقدة المطر"، حيث ترجم ذلك الإحساس الحاني والرغبة في عودة المحبوب وتأثيره النفسي، بعد الغياب بالخوف أو فقدان الأمان الذي ارتبط بنزول المطر وبرودة الطقس·