لم تعد الكلمة مجرد ساحة مفتوحة على التاريخ، ولا حتى بوابة على المستقبل، بل أصبحت تحدث رعبا وتستفز الجيش والبوليس والمخبرين، تحدث كثيرا من الحواجز التفتيشية وتعطي رخصا للصلاة بعد أن تخضع للبحث عن بقايا نغمة مهربة من تخوم التاريخ، أو قصيدة تفتح عيونها على منبع ماء وعودة الصبايا بجرارهن، الكلمة والزيتونة والدبابة كالخشبة والمسيح والجسد ووشاية قبلة كانت كلمة، هي ذي بداية القدس العربية الماضي، الصهيونية الحاضر، المفتوحة على النار والدم والغموض مستقبلا. القدس مدينة الله على الأرض، كل ما حولها مبارك فيه، من زيتون ونخل وأعناب، كل ما في القدس أجراس سماوية تضرب من غير نواقيس، مآذن مرفوعة من غير لسان، هو النور الذي انبعث على الأرض فدمر الظلام المتسلل في عروقها، لم تكن للأنبياء عقودا يلتزمون جراءها بجنس وعرق، كانت لهم الكلمة المفتوحة على النور، الأنبياء يعمرون الكلمة الطيبة ويجيشونها على الظلمة الذين يناصرون الظلام ويحاولون مده جدارا سميكا حتى لا يتسرب النور كما المطر ويسقي القلوب حتى تتحول ثمارها إلى محبة. الأنبياء كانوا يغنون ويبثون في الجماد الغناء والنشوة، كانوا يحركون الأموات ويعيدون الضوء إلى أعينهم المغمضة والتي أطبق عليها الموت جبال الظلمة، هل رأينا نبيا ساخطا؟ هل كان في قلوب الأنبياء ولو نقطة للجبروت؟ لم يكن البيت إلا للطاهرين من الرجس، لم تكن الرسالات تنزل إلا على القلوب البيضاء. عندما تخاطب نملة قومها بسذاجة الضعفاء محذرة إياهم من جيش نبي، فابتسم من قولها ابتسامة عريضة على وجهه الكريم الذي غمرته سكينة الحمد والشكر والفرح، وتمضي النملة في سلام لا حواجز ولا حوافر ولا قنابل مسيلة للدموع، لم تكن النملة وحدها بطلة الأمن والمدافعة عن حقوق النمل في الحياة، بل كان ذلك الطائر الجميل الذي امتطى الريح وطار ناحية الجنوب ولم يضلل طريقه لأن قلبه كان معمرا بالنور ولسانه نضاخا بالحب. تنفتح النوافذ ويتسلل الغناء ليوقظ الحسناء النائمة بين العسس والجدران، أيتها الحرية الغافية هنا شلال الضوء للوضوء، هنا الشمس ميقات للصلاة، لم يكن الليل رماد الأيام مؤذنا للصحو، بل كان جدارا ينبغي اختراقه دون إحداث أي ضجيج، بكاء المحبة والعبادة والقيام الذي يلاحق النجوم السامرة، هو ذا الكون الكبير تحويه كلمة، وحدها الكلمات التي تضع حدودا للامتناهي، وحدها تملأ المساحات التي لا يبدأها الزمن ولا تلحقها النهايات، تستيقظ الغافية على رشة نور، تسأل المستشارين والقادة، تتفقد خزائن الأموال والسلاح، تسأل أكل هذا من أجل الأمن والاستقرار؟ هو ذا الرذاذ المتطاير من النور كما الأنسام المنعشة في يقظة هاجرة تلفح الوجوه. لم يكن النبي في كتابه إسرائيليا ولا يهوديا، بل كان مفتاحه "بسم الله الرحمن الرحيم"، اسمه مشتق من السلام، هو الملك القوي الذي سخر له الريح والجن والحيوان. تأتي الغادة وفي عينيها إشراقة ندم، تغتسل بكل أمطار النور فالأبواب مفتوحة والجدران السميكة جرفها النور، لم يكن للزبانية مقام على الحدود. هي النخلة تنتفض طربا، هو الصوت يناديها هزي إليك بجذع النخلة، هو الرطب الجني يتساقط أرسالا حلوا كما الكلمات، هي ذي القدس الكلمة الكبرى تضيء على الأرض. إن الأنبياء أعداء الظلمة والجبابرة هزموا النمرود وفرعون وهامان من أجل المستضعفين في الأرض، من أجل ردم فجوات الظلام، تحرير النور من أغلال الطغاة، من أجل إضاءة القلوب المظلمة دون دفع فاتورة كهرباء. ها هي الأنغام ترش بالغازات المسيلة للدموع، بالماء الساخن المشوي للأصوات، لكن هل شجرة الغناء تموت؟ هل قصائد الشعر تجرفها الجارفات وتأتي على أغصانها المسالمة الدبابات؟ لماذا خلق الله الشعراء والزيتون الذي يجري في عروقه النور كما المشكاة حتى تهجر إليه العصافير ويتبرد من تحته الماء. القدس صلاة ما زالت تقيمها الأجراس والمآذن، مازالت تصنعها الأرواح والقلوب، القدس، ليست فرقة تقلد العصافير في مواسم الغلال، ليست حجارة يصادرها التاريخ المتعدد لبيت واحد. لأول مرة تكون القدس مدرج صعود ضوء الأرض لصفاء السماء، بذلك النموذج البشري اكتملت صفات السلام والحب والطهر، إنه القادم من الأرض إلى السماء التي أعلنت عرسها الأبدي والخاتم لكل الأفراح، إنه ذلك الاستمرار المتواصل المتناسل ما بين القلوب المحمولة بالكلمة. الكلمة؛ الغناء الذي لم تقهره دبابة، والصوت الذي يطير ممددا جناحيه بالسلام على كل الأرض. القدس عاصمة الثقافة العربية رغم الدبابة، فالزيتون لم يفقد خضرته الدائمة ولا ثمرته المباركة. وما يزال الغناء مزمار سلام على لسان الأنبياء.