قامة الجزائر الثقافية بقامة تاريخها المتميّز، فأين مددت بصرك في فصول التاريخ إلاّ ووجدت للجزائر بصمتها الواضحة التي تدلّ دلالة على أصالة هذا البنيان المرصوص، فحين ترفع رأسك إلى الساحل يسكنك البحر بكلّ ما يظهره ويخفيه، وتعيد عليك أمواجه قصص وأساطير اندمجت بالواقع وبتفاصيل تمّ تشييدها على ما تبقى من حكايات الأزمنة الغابرة، تعيد تحقيقها الحجارة التي ما تزال تحفظ الحكاية رغم برودة الحجر. حيث ما تنقلت بك الخطى على خيط الساحل الذي تمّت حياكته بالأزرق رغم رمادية الصخور وشغفها المطحلب بالماء، إلاّ ووجدت بنيانا يفضح الرخاء والثراء ويثير فيك نهم الكروم الآخذة بأسباب العقول في جرارها وقواريرها وهي تدور بين موائد السادة محملة على أكتاف العبيد نصف العارية، أو بين مدارج حلبات المبارزة حيث السباع التي تم استجواعها حتى تدلي بكلّ ما أودعتها الطبيعة من سرّ الوحشية المختبئة بين أظفارها وأنيابها. البحر وحده مازال مسترخيا كالشيخ الهرم في أماسيه الصيفية ساهما في ذكرياته التي لم يمل ترديدها على الأمواج الآتية من الزمن الغابر، قصص من الوندال والفنيقيين والرومان وبعض ما تبقى من أصوات فيلة هنبعل العابرة إلى الشمال لعلّها تسقط رأس روما المتعالية. هنا فقط أستسمح الجبال الشاهقة التي تدخل فيك الرعب بامتدادها المناطح للسماء، تسألك هل لمست الوقار والأنفة، هل تفحّصت الحقيقة من الثلج والحجر؟؟ في ذلك الصمت المخجول بالكبرياء يطلّ من قمم سكنها العمالقة والرياح وتوّجتها الشمس وألبسها الثلج حلّة البياض والسندس الأخضر. لا تقف هناك، بل يمكنك المضي جنوبا حيث تشرئب أعناق المآذن والنخيل وحيث تفتح الصحراء خزائنها في كلّ خزانة ألوان من الكتب، وفي كلّ قصر سيرة ولي صالح وكرامة تعيد النبوءات وتكشف عنها أستار الغيب، هناك حيث تطير الكثبان كما الرحل حين تسير مع الريح، لا تسأل الخيل والحمحمات الصاهلة في الأفق المترامي الأبعاد فهناك العصافير التي لم يجر على أعناقها سيف الزمن، مازالت تدلي بنشيدها إلى القوافل الضاربة وتدلها على الماء . خزائن مفتّحة النوافذ والأبواب والصحف أيضا، وكلّما نزلت إلى أعالي الصحراء أعاد عليك الحجر قصة خبأها الزمن موشّمة مرسومة كأنّ صائدي الأيائل والفهود في عودتهم يشعلون نار النصر برماحهم الحجرية وبأنغامهم التي دوّنوها حتى لا تهرب من التاريخ. هي ذي خزائن وطني النفيسة من آثار ورسوم ومسكوكات، هي نفائس المخطوطات التي ما زالت تبحث لها عن قرّاء من نوع خاص، نوع يدرك أنّها نفائس نادرة وخزائن من تحف.