الأستاذ الدكتور مختار زواوي، أستاذ اللسانيات واللغة الفرنسية بكلية الآداب واللغات والفنون بجامعة سيدي بلعباس، صدر له العديد من الكتب حول مشروعين بحثيين، الأول متعلق بلسانيات دوسوسير الجديدة، والثاني حول دراسة الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم.. "المساء" تواصلت مع الأستاذ، وأجرت معه هذا الحوار. ❊❊ كيف بدأ اهتمامك بدراسة ترجمة القرآن الكريم؟ ❊ إن الذي دعاني إلى الاهتمام بالترجمة الفرنسية للقرآن الكريم، العدد الهائل من هذه الترجمات، فقد وصلت إلى أكثر من 120 ترجمة فرنسية مختلفة. وقد تمكنت من جمع أكثر من 50 ترجمة منها. وكان السؤال الأول الذي وجب عليّ البحث عن تفسير له، لماذا هذا القدر الكبير من الاختلاف؟ وأحسب أنني اقتربت من الإجابة عنه في الكتابين المذكورين، وفي عدد من المقالات الفرنسية، لكنني سرعان ما التفتّ إلى ظاهرة عجيبة، تكاد تكون السمة المشتركة لكل المترجمين، فقد عمدوا إلى النص القرآني، فترجموه آية آية، واتخذوا الآية وحدة ترجمية. لكن الطريقة هذه فاسدة من وجوه؛ فهي تخل بالمعنى، وتقطِّع أواصره، وتسلب النص القرآني خاصية الوقف، التي كثيرا ما تساهم في توجيه معناه ودلالاته؛ لأجل ذلك رحنا نقترح منهجية لترجمة النص القرآني، نراها أنسب، وهي مودعة في الكتابين المذكورين. ❊❊ وإلامَ تعزو أسباب هذا الاختلاف؟ ❊ لهذا الاختلاف، في اعتقادي، أسباب مختلفة، منها ما يرتبط بالمترجم، ومنها ما يتصل باللسان الفرنسي، وعلى قدرته على تحمّل المعاني القرآنية، ومنها ما هو متصل بالنص القرآني ومختلف تفاسيره. أما ما يتصل بالمترجم فإن المعارف الموسوعية التي يجب على المترجم مراكمتها أدوات مهمة في فهم النص القرآني والاهتداء إلى دلالة مفرداته ومعاني جمله وملفوظاته. وأما ما يرتبط باللسان الفرنسي، فإن هذا الأخير شهد تحولات لسانية منذ أن أخرج أندري دو رويي أول ترجمة فرنسية عام 1647، وكان لهذا التحول اللساني أثر بارز في النصوص المترجمة. وأما بخصوص تفسير النص القرآني فإن اختلاف عدد من التفاسير كان له، هو الآخر، وقع ظاهر في نقل المعاني إلى اللسان الفرنسي؛ إذ عادة ما يلجأ المترجمون إلى تفاسير مختلفة. ❊❊ وما رأيك في مسألة استحالة ترجمة القرآن الكريم؟ ❊ إن ثمة أسبابا جمة، تجعل الباحث ينتهي إلى التوكيد على أن ترجمة القرآن الكريم مستحيلة. لكننا رحنا في بحوثنا ننظر في هذه الاستحالة من مستويات؛ المستوى الصوتي، ثم المستوى المفرداتي، ثم المستوى التركيبي. وتتضافر هذه المستويات، في اعتقادنا، من أجل التوكيد على إعجاز النص القرآني. ❊❊صدرت لك العديد من المؤلفات حول النظرية السوسيرية، هل لك أن تعرّفنا بهذه النظرية، وبالجديد الذي أحدثته في عالم اللسانيات؟ ❊ ليس من اليسير تقييم مدى التحول الذي يجري في أدبيات اللسانيات نتيجة العثور على مخطوطات دو سوسير الجديدة ونشرها عام 2002، لكننا نتابعه عن قرب بفضل علاقتنا بسيمون بوكي، محقق هذه النصوص. وعلى الرغم من التحفظات التي عبّر عنها عدد من الباحثين بُعيد نشر هذه المخطوطات، لاسيما من قبل أولئك الذين مايزالون يتشبثون بكتاب المحاضرات في اللسانيات العامة، فإن النصوص هذه تكشف عن تصورات ومفاهيم جديدة لم يعهدها البحث اللساني من قبل. ولعل أهمها، في اعتقادنا، رد الفصل بين لسانيات اللسان ولسانيات الكلام الذي روّج له كتاب المحاضرات المنسوب لدو سوسير، وتوكيد البعد السيميائي للسانيات، واقتراح تصنيف بديع للعلامات (اللسانية). ❊❊ كيف يتلقى، في نظرك الباحثون العرب هذا التحول؟ ❊ يتلقاه الباحثون العرب بكل اهتمام؛ شأنه شأن البحوث الجديدة التي تزخر بها أدبيات اللسانيات في الجزائر وفي الوطن العربي، في السيميائيات، والتداوليات، واللسانيات التطبيقية، وغيرها من المجالات التي تدل على عناية الباحثين والطلبة الشديدة باللسانيات عموما. لكن دراسة تلقي الفكر اللساني السوسيري إن تأليفا أو ترجمة، ماتزال في اعتقادي تحتاج إلى دراسات مستفيضة، لا سيما ما أسميناه بالمنافذ الخفية التي انتقل منها الفكر السوسيري إلى أدبيات اللسانيات العربية، من طريق المؤلفات الغربية غير اللسانية (الفلسفية، الأدبية، وغيرها). إن العناية المتزايدة من قبل الطلبة بمؤلفاتنا، وعلى ما استجد من فكر دو سوسير، هي التي دعتنا إلى إطلاق هذه السلسلة الجديدة من المؤلفات. وليس الغاية منها التعريف فقط بأهم المسائل التي احتوت عليها النصوص السوسيرية الجديدة، وتيسير فهمها وتمثلها للطلبة، بل كذلك الاستفادة منها من أجل التجديد في الفكر اللساني العربي. ❊❊ وفي اعتقادك، كيف يمكن الاستفادة من هذه النصوص الجديدة من أجل تطوير البحث اللساني العربي؟ ❊ لقد بتنا على يقين بأن نصوص دو سوسير الجديدة، شأنها شأن الكثير من التصورات اللسانية الغربية الأخرى، من شأنها أن تساهم في تطوير البحث اللساني العربي شريطة عمق تمثل أصولها، وحسن تلقي تصوراتها. ولكننا مقتنعون أيضا بأن اللسانيات العربية أبدعت من المفاهيم والتصورات؛ ما يجعلها خليقة بأن تحاور لسانيات دو سوسير الجديدة محاورة جادة، تفضي إلى بناء نظرية لسانية عربية أصيلة، تنأى عن كل اقتراض للمصطلح الأجنبي. وإننا نختبر عددا من هذه المفاهيم العربية الأصيلة (كالحرف، والكلمة، والموقع التركيبي)؛ من أجل ترتيب مستويات تحليل اللسان العربي. ونعيد ترتيب علوم العربية وفق هذه المستويات، لكي نعيد الصلة، كما فعل دو سوسير بين لسانيات اللسان ولسانيات الكلام التي تضم عندنا، مبدئيا، النحو في شقه التركيبي، وعلوم البلاغة. إن الجديد في هذا التصور النظري السعي إلى ضم كل المعارف اللسانية التي واكبت سيرورة اللسان العربي في وحدة سيميائية شاملة، وإنزال الحرف، والكلمة، والموقع منزلة العلامة اللسانية، التي تساهم إذا تضافرت، في تشكيل علامات الكلام. ولم ننته بعد إلى الصياغة النهائية لهذه النظرية، لكن أصولها النظرية، السوسيرية والعربية، متضحة لنا، ولذلك آثرنا أن نصوغ ملامحها العامة في سلسلة من المؤلفات، في شكل مقدمات عامة. وإننا نعمل الآن على لسانيات اللسان العربي، لننتقل بعدها إلى لسانيات الكلام العربي، ثم إلى البحث في سبل توحيدهما، ضمن تصور سيميائي عربي أصيل. ❊❊ يكاد البحث اللساني يتقاسمه توجهان؛ الدراسات البينية، وتوجه الدراسات المتخصصة؛ ما موقفك منهما؟ ❊ لكل منهما، في اعتقادي، محاسنه وفوائده التي تساهم في تطوير الممارسات اللسانية، لكن الممارسات هذه لا يجب أن تبقى حبيسة التوجه التنظيري، بل يجب أن تساهم أيضا في إمداد اللسانيات التطبيقية وفروعها التي لا تحصى، بالأدوات التي تكفل لها وصف الممارسات اللغوية الفردية والجماعية وتفسيرها في مختلف حقول الحياة الاجتماعية. إن اللغة خليقة بأن تأتي من جوانب متعددة، لكن التخصص مطية للدراسات البينية، ولا يمكن لهذا التشارك العلمي أن ينجح إلا إذا استنفد الباحث جانب تخصصه. ❊❊ ما تقييمك لمستوى المجلات المحكمة التي تصدرها الجامعات الجزائرية؟ ❊ إن المجلات المحكمة التي باتت تزخر بها الجامعات الوطنية، وأنا أتابع عددا منها، تساهم، هي الأخرى، في تطوير البحث اللساني وتنويعه، وهي، فعلا، تحتوي على بحوث جادة، ومقالات محكمة رصينة. لكنني أعيب على جل هذه المجلات قلة جودة إخراج أعدادها؛ فهي، عادة، ما تكتفي برص هذه المقالات والبحوث؛ ملف قابل للتحميل. لقد آن للقائمين على هذه المجلات الاجتهاد في إخراج هذه المجلات إخراجا جماليا أنيقا، والتفكير في نشرها بالتعاقد مع دور النشر الوطنية. وسيساهم ذلك، في اعتقادي، في بعث حركة المقروئية، ونشر المعرفة العلمية. ❊❊ لمحة عن إصداراتك؟ ❊ في ما يخص مشروعي المتمثل في دراسة الترجمات الفرنسية للقرآن الكريم، صدر لي في هذا الشأن كتابان؛ "سيميائيات ترجمة النص القرآني" (2015)، و«فصول في تداوليات ترجمة النص القرآني" (2018)، وعدد من المقالات الفرنسية في مجلات دولية. أما مشروعي الثاني المتعلق بلسانيات دو سوسير الجديدة فصدرت لي فيها المؤلفات الآتية "دو سوسير من جديد؛ مدخل إلى اللسانيات" (2018)، و«من المورفولوجيات إلى السيميائيات" (2019). كما ترجمت نصوص دو سوسير الجديدة في كتابين، وقدمت لهما بمقدمات في مسائل لسانية عامة، ومسائل في الفيلولوجيات السوسيرية، وهما: "في جوهري اللغة" (2019)، و«نصوص في اللسانيات العامة" (2021). ولما كانت كل هذه المؤلفات صدرت خارج الوطن، خاصة بلبنان والأردن، وازدادت عناية الباحثين والطلبة بلسانيات دو سوسير الجديدة، أعكف بالاشتراك مع دار "ومضة" الجزائرية، على إخراج سلسلة من المؤلفات الجديدة، وصدر منها في الأيام الأخيرة كتابان "مقدمات في النظرية السوسيرية"، و«مسائل في تلقي النظرية السوسيرية". كما أشارك في عدد من المؤلفات الجماعية، الوطنية والعربية في اللسانيات. وبالمقابل، نقلت عددا من المقالات اللسانية الفرنسية إلى اللسان العربي في السيميائيات والتداوليات. وسيصدر لي، قريبا، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر، دراسة عن مخطوطات دوسوسير الجديدة، بعنوان "مسائل في اللسانيات وعلم العلامات، قراءة في نصوص دوسوسير الجديدة".