تعتبر دار "محي الدين" القابعة في أعالي المدنية واحدة من بين 119 دار (فحص) كانت منتشرة في ضواحي العاصمة في العهد العثماني وكانت تستعمل كمصيف للأشراف وعائلاتهم، هذه الدور لم يبق منها اليوم سوى 13 دارا بعضها رمم كدار عبد اللطيف وبعضها يرمم كالدار الحمراء ودار "محي الدين" والباقي ينتظر، "المساء" دخلت موقع دار محي الدين رفقة مدير المشروع عبد الوهاب زكار فوجدته ورشة مفتوحة تحاول استعادة نفحات من تاريخ عميق داست عليه الأقدام سنوات متعاقبة وكاد يتحول إلى كومة من الحجارة يعود تاريخ إنشاء دار محي الدين إلى نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر حسب الأستاذ زكار عبد الوهاب وتندرج ضمن فحص الوسط الذي يضمّ سيدي امحمد وبئر مراد رايس ويمتد حتى الدرارية، والمعروف عن هذه الفحوص أنّها كانت تضمّ بساتين كبرى وأملاكا زراعية واسعة تجمع على أرضها العديد من الدور والمنازل الفاخرة التي كانت ملكا للنبلاء ورجال الدولة العثمانية، يلجأون إليها لقضاء فصل الحر، وتضم دار محي الدين ثلاثة أجزاء، المبنى الرئيسي وهو الأكبر من حيث الحجم يشغله الأب والجزءان الآخران يخصصان للأبناء وعائلاتهم. تشويه الاستعمار للمبنى : عندما احتلت فرنساالجزائر - يقول الأستاذ زكار- لم تعرف قيمة هذا المعلم التاريخي ولايهمها أن تعرفه أصلا، من منطلق أن هذا الشعب ليس له حضارة ولا تاريخ وهي (فرنسا) من سيأتي له بالحضارة. وقد استعملت القوات الفرنسية ما كان موجودا من مبان في العاصمة حتى لا تضيع الوقت وخاصة المال، وحولتها إلى ثكنات عسكرية وحتى إلى مقرات تعذيب بعد أن شوهتها ودمرتها وحولتها لما يخدم حاجياتها. ومن ثم - يقول رئيس االمشروع - تعرضت دار "محي الدين" للعديد من التشويهات من طرف القوات العسكرية الاستعمارية التي سكنتها وحولتها إلى ثكنة عسكرية ومركز للتعذيب، حيث سعت إلى إزالة جدران وإقامة أخرى مما أدى إلى سقوط العديد منها. كما سعت إلى إزالة أقواس وتغيير أماكن أخرى بطريقة غير مدروسة، والمعروف أن القوس - يضيف محدثنا- لا يوضع أبدا فوق باب ولكن فوق جدار، لكن فرنسا عندما احتلت المكان قامت بتحويلات لبناء مرحاض على طريقتها وقامت ببناء جدار وسدت الباب ونزعت عنه القوس الذي أعادت تركيبه فوق باب آخر قامت بفتحه، لكنها وضعت القوس على الباب و بما أن القوس ثقيل، لم يحتمل الباب فباشرت بوضع خشبة لتمتص الثقل لكن مع مرور الوقت تآكل الخشب فانهار كل شيء وتسبب ذلك أيضا في تحطم السلم الذي يقود إلى "السطح". وبسبب التغيير غير المدروس أيضا - يقول زكار- في أساس البيت والأعمدة هذه الدار مهددة اليوم بالانزلاق خاصة وأنها تقع على مرتفع يطل على العاصمة، كما تم المساس بسمك الجدران مما أدى إلى نتائج وخيمة، كما قام الجيش الفرنسي بغلق بعض النوافذ والأبواب، والأخطر من ذلك -يضيف المتحدث- قامت بردم أجزاء من المبنى من بينها "الحمام" بحيث أنه من المعروف عن الدور العثمانية ضمها لحمامات تقليدية، وما فعلته القوات الاستعمارية هو ردم كلي "للحمام" ومن حسن الحظ أنها ردمته دون تحطيمه لذلك سيكون من السهل استعادته بعد رفع التراب. وهو ما حدث أيضا مع "دار عبد اللطيف" التي رممت وحولت على إقامة للفنانين، حيث أقدمت القوات الاستعمارية فيها على ردم كلي للحوض، وما سنقوم به - يقول المتحدث- هو التخلص من كل التشوهات التي قامت بها فرنسا واستعادة الشكل الأصلي للمبنى، ففرنسا - يقول الأستاذ زكار- لم تحمل الحضارة كما ادعت وإنما حطمت هوية هذا الشعب حتى يقال أن أجدادنا هم الغاليون. ترميم المبنى لم يكن من بين الأولويات حماية الآثار وترميمها لم يكن من أولويات الجزائر حتى وقت قريب، فالسيد زكار الذي يعد من بين ال11 مختصا في الترميم الذين أرسلتهم الجزائر لتلقي تكوينا في إيطاليا ولم يعد منهم إلا ستة، أكد أنه منذ تخرجه في 1989 لم يبدأ العمل في مجال الترميم إلا سنة 2005 بمعنى أنه طوال 17 سنة بقي مكتوف اليدين بسبب إهمال التراث. كما أنه لم تكن هناك قوانين تشريعية تنظم العملية، كل هذا جعل المعلم وغيره من التحف المعمارية تعاني الإهمال الكلي حيث تركت دار محي الدين لمصيرها ونتج عن ذلك اتخاذها كسكن من بعض العائلات التيث شغلت كل الموقع بأجزائه الثلاثة، وحسب السيد زكار فان هذه العائلات تسببت في المزيد من التشويه للمبنى بحيث سعت كل واحدة منها إلى إجراء توسعات على هواها -دون حسيب ولا رقيب- بإضافة غرف وتوسيع أخرى وإزالة جدارن و تركيب أبواب... -وهو ما لاحظته "المساء" عند زيارتها للموقع. وبعد اعلان وزارة الثقافة عن رغبتها في ترميم المعلم وتحويله إلى مقر للمركز الوطني للبحث في ما قبل التاريخ والتاريخ والأنتروبولوجيا المتواجد حاليا بمتحف الباردو، وكذا إلى "مركز الأغنية الشعبية" الذي يضم قاعة عروض ومتحف إبداع، كما حدث مع "دار عبد اللطيف" التي حولت إلى إقامة للفنانين ومقر الوكالة الوطنية للإشعاع الثقافي بعد أن انتشلت هي الأخرى من الخراب، تولت الدائرة الإدارية لسيدي امحمد مهمة ترحيل العائلات توقيف النزيف أولا أشار مدير المشروع السيد زكار إلى أن أول خطوة قام بها فريق العمل بعد ترحيل العائلات هو اتخاذ تدابير استعجاليه لإيقاف تدهور المبنى أكثر، حيث بلغ درجة متقدمة من الخراب وهو مهدد بالسقوط في أي لحظة، فكان من الضروري القيام بتدخل استعجالي في انتظار إعداد دراسة تحول المبنى. فأي عملية ترميم يقول مختص الترميم زكار تحتاج أولا إلى دراسة المبني والاطلاع على الأرشيف الخاص به قبل أي تدخل، بالإضافة إلى الدراسة الميدانية والتي يقوم بها المرمم في الميدان أي على الحجارة لمعرفة العهد الذي بنيت فيه وشكلها الأصلي لإعادتها إلى الأصل وكل هذا يتطلب وقتا طويلا، قد يتعرض خلاله المبنى إلى المزيد من التشويه قبل الانتهاء من الدراسة اللازمة والانطلاق في أشغال الترميم. وأوضح بالمقابل أنه في السنوات الماضية كان المرممون يشرعون في الدراسات التي تدوم سنوات وفي هذا الوقت يكون المبنى عرضة للمزيد من التدهور، وعندما يتم الانتهاء من الدراسة يكون الزمن قد تجاوزها لان وضع المبنى تغير وهكذا... لذلك سعينا - يقول زكار- القيام أولا بالتدابير الاستعجالية والمتمثلة في نصب قوائم لتثبيت الجدران والأقواس وكادرات الأبواب وغيرها خلال قيامنا بالدراسة التي انتهينا منها. وبالنسبة لأرشيف دار "محي الدين" - يوضح المتحدث- أنه موجود لكنه غير كاف وكان لزاما الذهاب إلى فرنسا للعثور على الأرشيف الخاص ، وبما أن الدار تم شغلها من طرف القوات الاستعمارية فقد تم ايجاد أرشيف لوضع الدار خلال الفترة الاستعمارية وخلال التواجد العثماني أيضا، والشيء "الذي لم نجده - يشير المتحدث- هي الأوراق التي تدل على عمليات الترميم التي شهدتها الدار وهذا يمكننا أن نكتشفه عن طريق قراءة الحجارة بعد إزالة القشر الخارجي". بعد الانتهاء من التدابير الاستعجالية والدراسات المعمقة حول المبنى التي دامت ثمانية أشهر انطلقت عملية الترميم قبل 15 يوما وتولتها شركة "ايكوتاح" وهي شركة جزائرية سبق لها وان أشرفت على مثل هذه العمليات بما فيها ترميم "دار عبد اللطيف"، ورغم عدم امتلاكها لخبرة طويلة في هذا المجال إلا أنها توظف حرفيين ومختصين قادرين على انجاز هذه المهمة. مشكل اليد العاملة الحرفية ويبقى نقص اليد العاملة الحرفية التي تتولى أمر ترميم الزخرفة والحرف التقليدية مشكلة أساسية في مثل هذه العمليات، وفي هذا المقام يقول زكار أن المهن الحرفية التي كانت تعرف بها العاصمة وغيرها من ولايات الوطن اندثرت، فمن السبعينات لم يتم تناقل هذه الحرف التقليدية بين الأجيال بسبب ظهور المعامل والصناعات المختلفة، إضافة إلى نقص وعي شباب اليوم بأهميتها. "اليوم نناشد - يقول المتحدث - وزارة التكوين المهني من اجل تدارك الوضع من خلال التوجه لمن بقي حيا من الحرفيين المتمرسين في مختلف الحرف اليدوية لتكوين الشباب وفتح فروع تكوين في مثل هذه التخصصات، لابد من استغلال أولئك الشيوخ الذين يجلسون اليوم مهمشين في المقاهي بحي القصبة للاستفادة من خبرتهم ونقل معرفتهم للأمور لجيل الشباب قبل فوات الأوان. علاوة على الاستفادة من خبرة بعض المناطق التي مازالت محافظة على هذا النوع من الحرف على غرار غرداية والواد ي ...، وحتى تونس، المغرب ومن الدول العربية التي لها تقنيات ومواد متقاربة، وقال زكار: "بإمكاننا تكوين ألف مهندس مختص قادر على إجراء دراسات متميزة وجيدة، لكن إذا ذهبنا إلى الميدان ولم نجد يدا عاملة كفأة في مختلف التخصصات فكأننا لم نفعل شيئا". فالأمور مترابطة ومتكاملة ولن تصلح واحدة دون الأخرى، والآن علينا أن نفكر في تجسيد "مدرسة للتراث" التي وعدت بها وزارة الثقافة المرسوم الخاص بها ومن المنتظر أن تنطلق عن قريب يقول زكار، وبإمكان وزارة التكوين المهني أن تتدخل هي أيضا وتخصص فرعا للمهن القديمة. تمويل المشروع : وحسب رئيس الشروع فان ترميم دار "محي الدين" سيستغرق حوالي سنة ونصف إلى سنتين، فدار عبد اللطيف التي كان المسؤول المشرف عليها أيضا حدد مدة المشروع ب18 شهرا لم يتم الانتهاء منه إلا بعد سنتين ونصف بسبب مختلف المشاكل. أما عن ميزانية المشروع فقد أشار المتحدث إلى أن التكلفة الكلية الخاصة بالدراسة سواء المتعلقة بالتدابير الاستعجالية أو الدراسات الخاصة بالترميم الكلي للمشروع قدرت ب5 ملايين دج، أما التدابير الاستعجالية فقد كلفت بالنسبة لكل قصر من القصور الثلاثة التابعة لدار "محي الدين" 6 ملايين دج، وقدرت تكاليف الترميم التي خضعت إلى مناقصة وقع فيها الاختيارعلى الشركة البلدية "ايكوتاح" التابعة لبلدية الحراش بما قيمته 45 مليون دج.