يتناول المؤرخون والباحثون في هذا الملف، جوانب ومظاهر عدة من حروب الذاكرة المشتعلة، اليوم، في عالم تسوده الصراعات والمصالح. ويرى بعضهم أن للذاكرة دورها في التصدي للمخططات والمؤامرات التي تحاك هنا وهناك تحت عناوين مختلفة، وأن من الواجب، اليوم أكثر من أي وقت مضى، تفعيل هذه الذاكرة الجمعية، لكسب الوعي، والثبات، وعدم الوقوع في فخ التفكك والاضمحلال. المؤرخ عمار بلخوجة: كذب "الكولون" تشويه لذاكرة الثورة أشار المؤرخ بلخوجة إلى أن هناك حربا بين ذاكرتين، ذاكرة الثورة المتمثلة في الدولة الجزائرية، وذاكرة المعمرين الفرنسيين، الذين يحزنهم الاستقلال الذي خطف "فردوسهم"، وبالتالي هناك مواجهة بين الحقيقة التاريخية وبين الكذب. وتساءل المتحدث عن سبب مرض الذاكرة الفرنسية، ليجيب بأن ذلك بسبب كونها تغذت طيلة 132 سنة من الكذب والعيب والعار. وأورثت ذلك أجيالها في إطار النظام الكولونيالي البغيض المبني على الكذب، والذي يلد أجيالا بعدها أجيال إلى غاية اليوم، تغذت على الكتابات والصور والدعاية والعنصرية، فأعطت الإقصاء والقمع والظلم، علما أنه لا كولونيالية بدون عنصرية، لذلك يصعب التقارب بين الشعوب، من ذلك الشعب الجزائري المدافع عن الحقيقة التاريخية، مقابل جيل فرنسي يحترف الكذب. ويقول: "أوساريس اعترف بأن بن مهيدي قُتل. وقبلها قيل إنه انتحر، تماما كما قيل إن بومنجل ألقى بنفسه من الطابق 6، أليس هذا كذبا؟! وبالتالي فإن تصالح الذاكرة لا بد من أن يصد، أولا، الكذب، والاعتراف بما كان وجرى. ولا بد، أيضا، من حسن النوايا من طرف الخصم، علما أن حسن النية موجود عندنا كطرف جزائري منذ الأمير عبد القادر وحتى بن مهيدي. وأظن أن هذا هو جوهر الفرق بيننا". ويضيف بلخوجة: "لا بد للفرنسي ابن باريس وباقي المدن الفرنسية، أن يصحح ضميره نحو الظاهرة الاستعمارية، وأن ينكرها ويدينها، لا أن يفتخر بها، وبالإمبراطورية التي بنيت على الجماجم والمقابر". كما أشار المتحدث إلى أننا كجزائريين، ندعم الكتابة والبحث التاريخي، وننشر التاريخ في المدارس والجامعات؛ خدمة لذاكرتنا الوطنية. وأوضح أنه ضد أي طلب عفو من فرنسا تجاه الجزائر، لأن ذلك لن يغير من التاريخ شيئا، ولا يوقف الكتابة أبدا، مبديا استياءه من السلوك الفرنسي الذي يدين الجرائم، ثم يعلق النياشين للحركى، ويسمي شوارعه باسم الجلادين، لكن ذلك لا يعني العداء للشعب الفرنسي، خاصة منه من وقف مع الجزائر، وناضل معها وقتل فيها، فهو يستحق التقدير والدعم كي لا يقع ضحية اليمين المتطرف. الدكتور لخضر سعيداني (جامعة تيسمسيلت): 60 سنة عن الاستقلال... طموح وتحد يرى المؤرخ الدكتور سعيداني أن العلاقات الثنائية الجزائرية الفرنسية، بنيت على أفكار ومفاهيم زمنية حددتها ظروف كل مرحلة من مراحل التطور السياسي في البلدين. ولعبت الأوضاع الاقتصادية في السنوات الأخيرة، دورا مهما في ذلك، إضافة إلى تحكم قوى فرنسية، مرتبطة بما سمي "الذاكرة" في نصيب مهم من طبيعة هذه العلاقة. ويضيف: "جدير بالذكر أن الثورة الجزائرية كانت ولاتزال تشكل الخبز اليومي للمؤسسات الفرنسية على اختلاف طبيعتها، خاصة في الحملات الانتخابية، ولذلك أصبح التعاطي الفرنسي مع الشأن الجزائري، على قائمة الأولويات في فرنسا". كما يؤكد المتحدث ل "المساء"، أن طلب الاعتذار يأتي على كل ما ارتُكب في حق الجزائريين طيلة فترة الاحتلال، في مقدمة المطالب الجزائرية، ولكن من الضروري التفكير في آليات وتصورات ترافق هذا المطلب، لاعتبارات عديدة، وفي مقدمتها ضخامة الجرائم الفرنسية، وتنوعها، وتأثيراتها على المجتمع الجزائري، وهي التكلفة التي لا تضاهيها حتى جمل الاعتذار، ولا يمكن نسيانها عبر الأجيال. والمدرك لخطورة ما قام به الاستعمار، يدرك الفرق. ومن الجيد، حسب الدكتور سعيداني، الانطلاق نحو خلق ديناميكية جديدة تعتمد على تحيين المقاربات المتعلقة بتمتين وترقية اللحمة بين الشعب وتاريخه الوطني، عبر مختلف المؤسسات. وتأتي في مقدمتها الجامعة، التي تحتضن تجارب رائعة ونموذجية في كتابة التاريخ الوطني، كتابة لم تجد الدعم الكافي لطبعها بعد، رغم الكم الهائل من الرسائل والأبحاث التي تصدر يوميا، والحديث هنا عن تلك الأعمال التي تستحق الثناء طبعا. ومن الجيد أيضا، يواصل المتحدث، التفكير في بعث نشاط السينما الثورية، مثل ما كان عليه الحال سنوات السبعينات، وذلك بتسريع وتيرة إنجاز الأفلام الثورية. ونشير هنا إلى التجارب السلبية التي عرفتها عملية مشاريع أفلام بن مهيدي وزيغود، والتي تعبر عن تعثر في حق السينما، التي أثبتت نجاعتها مع أفلام سابقة مثل "الخارجون عن القانون"، و"أنديجان"، "وبن بولعيد". ويقول: "من جانب آخر، حري بنا فتح النقاش المتعلق بموضوع الأرشيف الوطني قبل الحديث عن نظيره في ما وراء البحار، ففي الوقت الذي يحصل فيه أساتذة من جامعات جزائرية على ما أتيح لهم من وثائق في دُور الأرشيف الفرنسية، يصبح ذلك صعبا في الجزائر أحيانا. وفي هذا الصدد يستحسن تسريع وتثمين جهود الأساتذة الجامعيين، الذين زاروا الهيئات الأرشيفية الفرنسية، عبر خلق هيئة وطنية، تجمع ما حصلوا عليه لتشكيل مؤسسة بديلة للأرشيف الفرنسي"، ليضيف: "يمكن أيضا التمكين لمبادرة وطنية تعمل على تحرير مذكرات المجاهدين التي تم تسجيلها سابقا، والتي لاتزال حبيسة الأدراج. وفي هذا الصدد نشير إلى النقص الفادح في هذه الكتابات. فبعملية حسابية بين عدد المجاهدين في كل ولاية وعدد المذكرات المكتوبة، نقف على الحاجة الملحة لتدوين ذلك، خاصة تلك الكتابات التي تغطي حيزا جغرافيا محليا، يمكننا من الوقوف على التطورات الجزئية لتطور الثورة في مختلف المناطق". ويؤكد الباحث والمؤرخ سعيداني أن إعادة بعث مشروع الذاكرة نحو المجتمع الجزائري، كفيلة بأن تعيد وهج الثورة للشعب، الذي ضحى بالنفس والنفيس، ولذلك وجب التفكير في برامج وآليات فعالة، تكون في مستوى الستين سنة التي مرت، والتي وجب جعلها محطة استراحة لتمتين أواصر العلاقة بين مختلف الفاعلين، في عالم تسوده التحديات الخارجية على المستويين الإقليمي والعالمي. المؤرخ الدكتور أرزقي فراد: التاريخ بحاجة إلى التحرر من الكولونيالية من جانبه، دعا المؤرخ الدكتور أرزقي فراد خلال حديثه إلى "المساء"، إلى دحض المدرسة التاريخية الكولونيالية من خلال مدرسة تاريخية جزائرية بكل أركانها ومقوماتها. كما رفض المتحدث مصطلح "صراع" و"حرب الذاكرة"، مؤكدا أنه مع جمهور المؤرخين، يعمل في إطار منهج وأدوات علمية أكاديمية، لتسجيل ماذا وقع معنا كشعب جزائري مع فرنسا منذ أن احتلتنا عسكريا، ثم استعملت سلاح المعرفة لتؤسس مدرستها الكولونيالية، التي كان هدفها في البداية، دراسة المجتمع الجزائري من أجل تكريس الهيمنة عليه أكثر. ومن أبرز منابر هذه المدرسة هناك "المجلة الإفريقية". وبعد الاستقلال، يضيف الدكتور فراد، اهتم المؤرخون الجزائريون بتاريخهم الوطني. وقال: "بالنسبة لي، مثلا درست المجتمع الزواوي بين العرف والثقافة الإسلامية، وكانت رسالتي للدكتوراه. وهذه المساعي العلمية وغيرها قوضت الدعاية الكولونيالية، وصدتها، ولم تكن مجرد حرب ذاكرة. وأنا أسميها إحقاق الحق وليس حربا، ولكن، للأسف، لاتزال معالم وبصمات الكولونيالية موجودة وتؤثر في أطفالنا وشبابنا، وبالتالي علينا تحرير تاريخنا، وإخراجه من المد والمدرسة الكولونيالية. وعلى كاهل المثقفين الحمل الثقيل من أجل هذه التصفية، التي ستعيد لتاريخنا أمجاده". الدكتور محمد لمين بلغيث: حرب الذاكرة مشتعلة قال الدكتور بلغيث إن موضوع "حرب الذاكرة" بيننا وبين فرنسا متواصل منذ 1962، لأن كل ما هو ذو صلة بالذاكرة يعكس الصورة المشوهة التي يقرأ بها تاريخ الجزائر منذ 1830 إلى 1962. فالفرنسيون يتجاوزون حدودهم، ويتنكرون ويشوهون التاريخ، منه ذلك الممتد من سنة 1516 حتى الاحتلال. ويضيف المتحدث أن الضفة الأخرى لاتزال تتشدق بكونها هبة، جاءت لتصنع الجزائر، وهذا خطير بما كان، ناهيك عن قصف وسائل الإعلام الفرنسية من أجل بعث الهزيمة النفسية لدى الجزائريين أمام فرنسا. ويؤكد محدث "المساء" في سياق حديثه: "إن قضية الذاكرة تبقى للأبد. والجزائر كدولة، سبقت فرنسا، وبقيت فرنسا تدين للجزائر بالمال والمعونة منذ عهد فرانسوا الأول، الذي توسط لدى العثمانيين من أجل ربط علاقة مع الجزائر، لكن الإنكار للخير كان الحاضر رغم أن الجزائر حررت مارسيليا ونيس من الإسبان. واليوم علينا أن نتحرر من تبعيتهم، ونلتفت إلى جهات أخرى بديلة". البروفيسور بن يوسف تلمساني: نعطيهم من أرشيفهم ما يدينهم يتحدث المؤرخ المعروف تلمساني، إلى "المساء"، عن أهمية موضوع الذاكرة قائلا: "بالنسبة لنا كجزائريين، يكفينا أن نبرز أهم المحطات التاريخية، وعليه يتوجب أن لا نختصر هذه الذاكرة في الفترة الممتدة من 1830 إلى 1962 فقط، كما يريد ذلك استعمار الأمس، ويجعل من ذلك مطية للتطاول علينا، أي القول إن الكيان الجزائري كشعب ودولة وأمة، لم يكن قائما قبل الدخول الفرنسي، وبالتالي لزم علينا الوقوف، وتفعيل كل أبعاد الذاكرة الثقافية منها والحضارية، حتى يكون ردنا واضحا تجاه أفكارهم، منها تلك الخاصة بأن الجزائر كانت شاغرة (قبل 1830)، واستعمرتها فرنسا المتحضرة". وأسهب البروفيسور تلمساني في موضوع التركيز، على البعد التاريخي، كرد صارم على الطرف الفرنسي، لإبراز أننا شعب رفض الاستعمار منذ 1830، سواء بالمقاومة المسلحة، أو بالنضال السياسي، وصولا إلى الثورة التحريرية الكبرى في 1954، وأننا لا نكف عن عرض المجازر المرعبة لهؤلاء الفرنسيين، الذين يقول أحفادهم اليوم، إنهم نقلوا حضارتهم لما وراء البحر، وهو ما يتجلى في قانون 2005 الذي مجد الاستعمار الفرنسي. ويضيف المتحدث: "نحن نعطيهم من أرشيفهم ما يدينهم، فكل أفعالهم كانت ضد الإنسان وضد الطبيعة. ومن الواجب هنا إبراز كل الإرث الاستعماري لفرنسا، فنخاطب بموضوعية وبعالمية ليس فقط فرنسا، بل كل العالم، لأن عندنا كتابات ورسائل جامعية توثق هذا التاريخ، وهي جاهزة للطبع، وتنتظر الالتفاتة والتفعيل". وواصل البروفيسور بن يوسف تلمساني حديثه، بالوقوف عند تاريخ المقاومة الشعبية في القرن 19، مطالبا باستحضارها، وتقديمها للشباب، فهي تتطلب حلقات متتالية، ولا يقل العرض الواحد عن 52 دقيقة، فالأجيال، حسبه، تريد المزيد من تاريخها لتزداد وعيا وفهما.