"خراطيش قلواز " هو العنوان الذي اختاره المخرج الجزائري المغترب مهدي شارف ليصوّر ما أسماه ب"الربيع الأخير للثورة التحريرية الجزائرية"، من خلال ما علق في ذاكرته وهو طفل لا يتجاوز الحادية عشر من عمره، لكن ما رأيناه في العرض الأول للفيلم بالجزائر الذي قدّم أول أمس بقاعة "الموقار" في إطار تظاهرة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية" كان شيئا آخر تماما··!!· الفيلم من إنتاج ميشال راي غافراس وسالم إبراهيم مدّته ساعة واثنتان وثلاثون دقيقة، سعى على امتدادها مهدي شارف الذي أشرف على الإخراج وكتابة السيناريو، من أوّل لقطة إلى آخرها، إلىدفع المشاهد للتحسّر على خروج فرنسا من الجزائر بل والهتاف بعودتها· الخطير في هذا الفيلم أنّ المخرج الذي تردّد سنوات طويلة (منذ 1986) قبل أن يملك الجرأة لانجاز مثل هذا العمل المشوّه والملفّق لحقبة زمنية ومكانية هي بريئة كل البراءة من مضمونه، استغل براءة الأطفال لتمرير رسائل مشفّرة ودلالة خطيرة شكّكت حتى في مقاصد الثورة الجزائرية وأيّدت أطروحة الجزائر الفرنسية وحق العودة للأقدام السوداء واليهود· وإن كان ليس غريبا أن يقدّم مهدي شارف الذي غادر الجزائر وعمره لا يتجاوز الربيع العاشر ما جعله متشبّعا بالعقليّة الفرنسية التي وكما يقول المثل المصري "لحم كتافه من خيرها" مثل هذا الطرح، كما ليس غريبا أيضا أن يقدّم هذا العمل ضمن التشكيلة الرسمية لمهرجان "كان" الأخير خارج المسابقة الرسمية ف"إذا عرف السبب بطل العجب"، لكن الغريب حقا أن تساهم الجزائر عبر وزارة الثقافة وبأموال الشعب في إنجاز مثل هذا العمل المهين وحضورها مراسيم عرضه خلال السهرة الجزائرية الرسمية على هامش ستينية "كان"، ثم يعرض بالجزائر بعد أن استهلك في القاعات الفرنسية و في إطار تظاهرة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية"، ليضاف بذلك لفيلم "كان ذات مرة في الواد"، "فيفا لالجيري" "الأنديجان"،"دليس بالوما"،·· المشوّهة لواقع وتاريخ المجتمع الجزائري· الحكاية هذه المرة تروى بعيون الطفل "علي" (11 سنة) تلميذ المدارس الفرنسية وبائع الجرائد المتجوّل وابن أحد المجاهدين الذين تركوا أسرهم للالتحاق بالجبال للكفاح ضد المستعمر··، وتتمحور قصتها حول تلك الصداقة الطفولية التي تنشأ بين "علي" وثلاثة من أطفال الأوربيين "نيكولا" الفرنسي،"دافيد" اليهودي و"جينو" الإسباني الذي يناشد دافيد قائلاً: "لا ترحل، فهناك في فرنسا لا يطيقون اليهود!!"، هذه الصداقة التي تبدو بريئة للوهلة الأولى من خلال الاشتراك في اللعب بين الأصدقاء وبناء كوخ قصبي صغير على حافة الوادي، لكنها في الحقيقة غير ذلك، هذا ما تؤكده العديد من اللقطات والمشاهد التي اختارها المخرج بعناية دون أن يأخذ بعين الاعتبار حتى تسلسل الأحداث والربط المنطقي ولا أن يعبأ بالتفكير في نفض الغبار عن بعض المشاهد التي جاءت في شكل كليشهات· بداية بالموقف السلبي الذي ظهر به الطفل "علي" على امتداد الفيلم وبقائه صامتا تجاه التصريحات النارية التي كان يطلقها صديقه الحميم نيكولا عندما لم يكف عن نعت والده ورفاقه المجاهدين بالإرهابيين دون أيّ رد فعل من طرف "علي" الذي بدا مؤيّدا لموقف صديقه غير راض عما تقوم به جبهة التحرير الوطني، والأكثر من ذلك منع "نيكولا"، "علي" من تعليق العلم الجزائرى على بوابة الكوخ الصغير مؤكّدا بقوله:" هذا الكوخ ليس لك وحدك هو أيضا ملكي لأنّني ساهمت في بنائه" في إيحاء ل"البيت الأكبر" الذي هو" الجزائر"، وهذه الفكرة التي تعيدنا إليها لقطة السيدة اليهودية راشيل التي ترفض الرحيل بعد الاستقلال ومغادرة البلاد رفقة أبنائها قائلة: هنا بلدي ولي الحق فيها ، أفضّل أن أموت هنا على يد العربي على أن أعيش المهانة هناك على أيدي الفرنسيين!!"· كما عمل الفيلم على إظهار الفرنسيين كملائكة تدبّ على الأرض في تعاملهم مع الجزائريين من خلال شخصية اليهودية راشيل وزوجها التي كانت تتعامل بكل طيبة مع "علي" وأسرته وتقاسمهم حتى طعامها، إلى جانب شخصية عامل محطة القطار الذي يقول في لقطة من اللقطات: "لا ادري ماذا ستفعلون عندما نترككم؟" وطريقة تعامله مع الطفل "علي" المملوءة بالحب والحرص، كذلك بالنسبة للعامل بقاعة السينما الذي لم يبرز إلاّ كلّ حنان تجاه "علي" واستخفافه بالأفلام العربية أو المصرية على وجه التحديد· وما زاد الطين بلة ذلك المشهد الذي سعى من خلاله المخرج إلى إبراز الجنود الفرنسيين وهم يلتقطون الأطفال الجزائريين كالقطط المشرّدة من أجل تلقيحهم ضد الأمراض المختلفة وتقديم الحلوى لهم··هذا فضلا عن التعامل السامي الذي كان يتلقاه بطل الفيلم "علي حمادة" من قبل كلّ المعمرين العسكريين منهم والمدنيين، ثمّ ذلك الحزن العميق الذي بدا على وجوه المعمرين كبارا وصغارا وهم يغادرون أرض الجزائر التي يحبونها كثيرا وتركها ل"العرب" الذين لا يعرفون قيمتها، تاركين خلفهم كل ممتلكاتهم ومنازلهم وأشيائهم الجميلة ···وأخيرا الفراق بين الأصدقاء الذين غادروا مكرهين·ليتغاضى المخرج بالمقابل عن وحشية المستعمر ومجازره الرهيبة التي ارتكبها في حق الجزائريين ما عدا بعض اللقطات المتناثرة هنا وهناك عبر شخصية الضابط "لاوران" التي لا تعكس بأي حال من الأحوال واقع الأحداث، محاولا بذلك خلق نوع من العدالة في تحميل المسؤولية وتوزيع الآثام على الطرفيين لتحقيق معادلة مغلوطة والأكثر من ذلك سعي المخرج إلى إظهار المجاهد بصورة الإرهابي اليوم من خلال اللحية والسروال الأفغاني والشاش المعلق على الرقبة· ولم يتوان صاحب "شاي في حريم أرخميدس" في الاستخفاف بالمقدّسات الجزائرية بداية بالدين الإسلامي عندما أكّد "نيكولا" لصديقه "علي" في مشهد من الفيلم أن ناطحات السحاب في فرنسا هي أحسن من المساجد في الجزائر، ثم الاستهزاء من تعدّد الزوجات وكذا من العلم الجزائري الذي فضّل شارف إبرازه مفرودا على الأرض· من القضايا البارزة التي تعرض لها المخرج أيضا هي قضية "الحركى" محاولا استثارة شفقة المشاهد على هذه الفئة التي وجدت نفسها بين ناريين بعد أن تنكّر الفرنسيون لدعمها ووعودها، وذلك من خلال شخصية "جلول"·· كذلك عملية التصفيات التي كانت تقوم بها الجبهة بعد الاستقلال والتي مسّت كل من تعامل مع الفرنسيين حتى "العاهرات"··· متغاضيا عن تصفيات المنظمة السرية الفرنسية···السؤال الذي نطرحه:"إلى متى نظلّ نشتم ويحرف تاريخنا بأموالنا··؟؟، علما أن دعم وزارة الثقافة وصندوق الدعم لفيلم مهدي شارف بلغ 2 مليار سنتيم·