اتّفق المشاركون في الملتقى الدولي الموسوم ب"المشترك الصوفي الجزائري الافريقي" الذي نظّم أمس بقصر الثقافة "مفدي تحت شعار "قوّة ناعمة من أجل مستقبل إفريقيا"، على دور الجزائر الكبير في نشر قيم التصوّف في العالم وبالأخصّ في القارة الإفريقية، كما عبّروا عن تضامنهم الشديد بما يحدث في فلسطين. قالت وزيرة الثقافة والفنون السيدة صورية مولوجي، إنّنا نلتقي اليوم في وطن الشيخ أبي مدين الغوث وعبد الرحمان الثّعالبي وعبد الكريم المغيلي ومحمد بن علي السنوسي وأحمد محمد التجاني الشريف ومحمد بن عبد الرحمان الجرجري القشتولي وغيرهم من المشايخ والعلماء وهم الرموز المؤسّسة للطّرق الصّوفيّة المنتشرة في إفريقيا وبقيّة العالم، مضيفة أننا نلتقي أيضا في أرض أسلاف القادريين والكنتيين والتجانيين والسنوسيين والرحمانيين، وأضرحتهم شاهدة على ذلك. وتابعت أنّ اختيار إفريقيا عنواناً للصالون الدّولي للكتاب هذا العام يتساوى مع رؤية القيادة السياسية في بلادنا وفي مقدمتها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، إذ ظلّت الجزائر وفيّة لمواقفها المبدئية تجاه القارّة الإفريقية، منذ حركات التحرير والمطالبة بتصفية الاستعمار، فكانت الدول الإفريقية سنداً للثورة الجزائرية وكانت ثورة نوفمبر روح التحرّر والكرامة في إفريقيا. كما أشارت إلى ارتباط التصوّف بالمقاومة ضدّ الاستعمار في القرن التاسع عشر، سواء في الجزائر أو بعض الدول الإفريقية، فكانت التجانية والقادرية والسنوسية وغيرها من الطرق القوّة الرمزية التي اعتبرها الأفارقة سِلاحهم من أجْل حريتهم وكرامتهم، وقد انطلقت هذه الحركة الروحية من حواضر الجزائر العلمية، منذ القرن الخامس عشر ميلادي وهي مرحلة راسخة في علاقة الجزائر بإفريقيا خصوصاً جنوب الصحراء وغرب إفريقيا والتي عرفت رحلة عبدالكريم المغيلي الذي عاش عشرين عاماً في دول إفريقية داعياً ومصلحاً ومجدّداً. إشعاع معرفي وصلح اجتماعي وأكدت الوزيرة أنّ التصوّف قدّم إشعاعا معرفيا وأدى مهمة الصلح الاجتماعي، كما لعب دوراً في تحقيق استقرار الإمبراطوريات الإفريقية، حتى أنّ هناك من الملوك والأمراء من تبنّى الإسلام وبعضهم كان من أتباع التصوّف وأسّسوا دولاً مثل دولة الصُّنغاي زمن الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي. وعليه فقد كانت المصاهرة الجزائرية- الإفريقية مُصاهرة حضارية وإنسانية كان لهجرة العلماء والصُّلحاء والقوافِل التّجارية ومقاومة الاستعمار فيها عوامل تاريخية حاضرة في الذّاكرة والمستقبل، تضيف الوزيرة. كما أكّدت مولوجي أنّ الامتداد الجزائري الرمزي يمكن أن يشكّل ثروة اقتصادية لهذه البلدان وعلى رأسها "السّياحة الدينيّة والثقافية"، كما يمكن أن تكون "المشيخة الصوفية الجزائرية" قوّة في فضّ النزاعات ومعالجة الأزمات الاقتصادية، ومخاطر البيئة والهجرة والتطرّف والإرهاب والفقر. مضيفة أنّ التصوّف يعتبر اليوم أحد أهم أوجه الأمن الفكري في مواجهة عولمة جارفة وعنصرية مقيتة مازالت تمارس في العالم. مؤسّسة علمية وجهادية من جهته، قال محافظ الصالون الدولي للكتاب، محمد إيقرب إنّ تنظيم هذا الملتقى يهدف إلى إبراز العلاقة التاريخية والروحية والدينية بين الجزائر والدول الإفريقية، وهو ما يصبو إليه أيضا رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الذي يولي اهتماما بالغا بإفريقيا التي يعتبرها القلب النابض للعالم ومستقبل الاقتصاد والطاقات المتجدّدة، علاوة على تأكيده لدور الدبلوماسية الجزائرية في استقرار إفريقيا. أما منسق الملتقى، البروفسور بوزيد بومدين، فقد تحدّث عن التصوّف كمؤسّسة علمية وجهادية، ساهمت في نيل الحرية من المستعمر، مطالبا في السياق نفسه بضرورة إعادة جوهر التصوّف المتمثّل في تربية النفس وكذا بتحري الصدق لبعض الدول التي تدّعي مثلا انتساب الزاوية القادرية لها. أما فضيلة الشيخ محمد المأمون القاسمي، عميد جامع الجزائر ورئيس الرابطة الرحمانية للزوايا العلمية، فقد نوّه برجال قطعوا المسافات والفيافي في إفريقيا وأسّسوا فيها هذه المدرسة الروحية الأصيلة الواحدة الموحّدة التي وحّدت الفكر والسلوك، والتي تعتبر حصانة ذاتية من آفات الزير والغلو والتطرّف وستظلّ بإذن الله تعالى كذلك إلى يوم الدين. ودعا الشيخ إلى ضرورة الاستفادة من قيّم الصوفية وإفادة الآخرين بها، حتى نحقّق التغيّر المنشود وأن ننهض بالمأمول، وهذا من خلال بعث الطاقات الروحية في النفوس والأمم، مضيفا أنّ قمة هذه الحياة الروحية تتجلى في سيرة الرسول المثل الأعلى للسمو الروحي، كما أنّها تربط بين الحياة الروحية ونظيرتها الاجتماعية . محاربة المفاهيم الخاطئة حول التصوّف وذكر الشيخ أنّ الشريعة ملتصقة بالحقيقة، وأنّ أصلهما مرتبة الإحسان، كما طالب بأهمية محاربة كلّ مدسوس على الصوفية، وترجع هذه المهمة للباحثين فيها الذين من مهامهم محاربة المفاهيم الخاطئة حول التصوف مثل تلك التي تنص أن التصوف ظاهرة اجتماعية تطبق على كل المجتمعات، ما يؤدي إلى تمييعها وإفراغ محتواها وجعلها مجرد طقوس، وكذا أهمية أن يزنوا أعمالهم بميزان الشرح الحنيف ويظهروا الصورة الناصعة للمنهج الإسلامي الأصيل. بالمقابل، نُظّمت خلال هذا الملتقى، جلستان علميتان نشّطهما أساتذة ومشايخ من الجزائر، نيجيريا، السنغال وموريتانيا، وفي هذا تناول الأستاذ الجزائري أحمد جعفري في مداخلته "حاضرة توات وامتدادها الكبير على دول إفريقيا" مقدّما مثالا بوجود قبائل في عديد الدول الإفريقية أصلها من توات ومناطق أخرى من الجزائر، مثل قبيلة كونتا التي تنتشر في 12 دولة بشمال إفريقيا، علاوة على وجود آثار ومؤلّفات ومخطوطات كثيرة لمشايخنا في هذه الدول خاصة المتعلقة بالمغيلي. كما أنّ تقاليد وعادات توات الخاصة بعاشوراء هي نفسها التي تمارس في السنغال، بالإضافة إلى الجانب المعماري بإفريقيا والذي يعكس العمارة الإسلامية. وتحدّث الأستاذ عن اهتمام الرئيس عبد المجيد تبون، بالمغيلي حيث نظّم عنه ملتقى بأدرار عام 1985 وملتقى آخر في 2022 . انعزال عن القضايا الوطنية وقبل أن يتحدّث الشيخ الخضر عبد الباقي من نيجيريا، عن الموضوع الذي قدّمه بالمناسبة، نبّه الحضور إلى انتمائه للمدرسة النقدية وبالتالي فإنّ مداخلته ستكون نقدية لبعض الزوايا الموجودة بجنوب الصحراء. رافضا كلّ مقاربة فلكلورية للصوفية، وأكّد ضرورة المراجعة النقدية للصوفية في إفريقيا، فقال إنّ عديد الزوايا منعزلة عن القضايا الوطنية، كما أنّ بعض مشايخها ورثوا القيادة من أوليائهم، وحالة الثراء الذي يتّسم به بعض المشايخ لا يتماشى مع الزهد الذي تتّسم به الصوفية. كما أعاب على بعض الزوايا، عدم اتّخاذها لمواقف صريحة أمام القضايا المصيرية في بلدانها، وكذا ضعف الحركة النقدية للخطاب الصوفي، وعدم التدقيق في بعض المفاهيم الجوهرية المركزية مثل الحب والفناء، خاصة في عصرنا الحالي، ليطالب بأهمية تقديمنا قراءة علمية ناقدة للتصوّف وعصرنة الخطاب الصوفي وإدراجه في عالم السياسة والاقتصاد برؤية معاصرة وهو ما يتطلّب جرأة من مشايخنا وعلمائنا، وأشار أيضا إلى تشجيع الغرب للتصوّف بحجة أنه يرمز إلى الإسلام المعتدل الذي يريحهم، بيد أن الذين تصدوا للاستعمار في إفريقيا كانوا من المتصوّفة. من جهته، تحدّث الشيخ عبد الرحمن لوح خديم مصطفى من السنغال عن صحوة إفريقيا الأخيرة حول ضرورة تحرّرها من بقايا الاستعمار، لينتقل في مداخلته إلى المكانة العالمية للتصوّف في السنغال التي تحتفظ بمؤلّفات قيّمة للصوفية، كما قام مشايخها بنشر التصوّف وتعليم مبادئه، علاوة على دورهم في الماضي، وحتى في عصرنا الحالي، في تحقيق الصلح بين المتنازعين مثلما حدث مع شيخ التجانية في السنغال الذي انتقل إلى السودان لتحقيق الصلح هناك. خريطة جغرافية صوفية وذكر الشيخ، دور مشايخ التصوّف بالسنغال في تقديم المساعدات المالية للفقراء وضحايا كورونا والكوارث الطبيعية، ليطالب بإنشاء مجلس صوفي بإفريقيا لمناقشة قضايا الأمة وتحدياتها، وكذا اعتراف الحكومات الإفريقية بأهمية الطرق في تحقيق الاستقرار ودعمها في خدمتها للجانب التربوي، وكذا الاعتراف بحيادها والاعتناء بتراثها ومشايخها.أما الأستاذ محمد إيدير مشنان فأشار إلى وجود الصوفية في كلّ قارات العالم، متحدّثا عن "الخريطة الجغرافية الصوفية" وهذا وفق أسس علمية وثقافية معرفية مشتركة تتمثّل في عقيدة الأشعري وفقه مالك وطريقة الجيندي السالك، وتابع أنّ صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر بيت المقدس انطلق من مدارس تابعة للزوايا وكوّن جيلا يشرب هذه القضية، ونفس الشيء بالنسبة للجيش الذي حرّر وهران. وواصل أنّ هناك من المتصوّفة متوزعون في العالم ولهم نفوذ يجب أن يظهر في قضايا مثل القضية الفلسطينية، مضيفا أنّ الثعالبي والمغيلي تفطّنا إلى مكيدة عالمية في عصرهما، تتمثّل في تحرّش صليبي في الجهة الشمالية ونفوذ يهودي في الجهة الجنوبية، ليتحرّك الثعالبي في الشمال ويراسل أمراء السواحل مثل ساحل بجاية، وتحرّك تلميذه المغيلي أيضا ليتمكّنا من توقيف هذه المؤامرة العالمية الكبيرة. بالمقابل، تحدّث مشنان عن سعي الجزائر لفتح طريق اقتصادي مع إفريقيا ليس حريرا ولا ذهبا مثل الماضي بل يعتمد على خيرات أخرى مثل البترول لتصبح رافدا من روافد التنمية.