نظم الصالون الدولي للكتاب، أول أمس، بقاعة "التاسيلي" ندوة علمية دولية بعنوان "مالك بن نبي وقضايا الراهن"، بمناسبة إحياء الذكرى 50 لرحيله، حضرها خبراء وأساتذة، منهم تلاميذ الراحل بن نبي، حيث كان اللقاء دعوة لتعزيز الدراسات النقدية لأعمال بن نبي ضمن أطروحات الراهن. بالمناسبة، أشارت وزيرة الثقافة والفنون صورية مولوجي، في كلمة قرأها نيابة عنها، المدير المركزي للكتاب التجاني تامة، إلى أن هذه الالتفاتة هي عرفان وواجب الوفاء والإكبار نحو بن نبي، الذي ترك كتبا قيمة ومشروعا حضاريا رائدا، مؤكدة أن اللقاء هو تجديد للعهد مع هؤلاء من نجوم الجزائر في الفكر والثقافة. قراءة تراث بن نبي لفهم الإسلام فهما صحيحا من جهته، حث الشيخ محمد المأمون القاسمي، عميد "جامع الجزائر" في كلمته، الشباب، على قراءة تراث بن نبي ليفهموا الإسلام الفهم الصحيح، عقيدة وشريعة وحضارة ونظاما شاملا للحياة، مضيفا أن بن نبي عاش فترة الاستعمار، لكن ذلك لم يمنعه من التفكير والتفكيك والتحليل بموضوعية، فكان بحق فيلسوف الحضارة ووريث الفكر الخلدوني وتمثل المنهج القرآني في النهضة، ليؤكد أنه التقاه عدة مرات خلال زيارته لزاوية "الهامل" سنتي 1967 و1969، وفي بداية السبعينيات، خلال الملتقى الإسلامي الخامس بوهران، والتي كانت من ثمار جهده، متوقفا أيضا عند تبني بعض الدول لمشروعه، منها ماليزيا التي كان علماؤها يحضرون هذه الملتقيات. واعتبر محافظ صالون الجزائر الدولي للكتاب، محمد إيقرب، إن بن نبي شخصية جزائرية شغلت الباحثين بأفكاره وإشكالاته الحضارية، كما أن اللقاء ذكرى لرحيله 50، التزمت طبعة "سيلا" بإحيائها، مؤكدا أن كتب هذا المفكر كانت حاضرة في كل الطبعات السابقة، وكانت دوما تلقى الرواج، كما أن بن نبي كان دوما مدافعا عن حقوق الإنسان وعن المشروع الأفرو آسيوي، ووقف ضد كل أشكال الهيمنة والاستعمار، ليصرح بأن أعمال هذه الندوة ستطبع لاحقا. بدورها، تدخلت ضيفة الندوة الآتية من نابلس بفلسطين، آمنة محمود أبو حطب، في كلمة باسم الضيوف، قالت فيها إن بن نبي شخصية عالمية، وأنه من رواد النهضة العربية في القرن 20. كيف نقرأ مالك بن نبي اليوم؟ الجلسة الأولى من الندوة، حملت عنوان "كيف نقرأ مالك بن نبي اليوم؟" برئاسة الدكتور عمر الزاوي، من جامعة وهران، وتدخل فيها الدكتور عمار طالبي للحديث عن "القراءات المعاصرة لمالك بن نبي: الواقع والرهان" متناولا فيها المصادر التي كونت عقلية بن نبي ووجهته، وكان يتساءل عن المغزى من أن يكون مولودا في الجزائر، وليتبرأ من زمنه البائس والنكد، وكان دائم المقارنة حتى وهو طفل في 8 سنوات بين بلاده وبين الآخر، ليقول "كان يقارن بداية بين شيخه في الكتاب، ومعلمته الفرنسية التي شجعته على المطالعة، وفي الثانوية تأثر بأستاذه الشيخ الموهوب مفتي قسنطينة، ليحصل على منحة للدراسة في باريس، علما أنه كان دوما الأول على دفعته. من جهة أخرى، تناول المتدخل كتابات بن نبي عن اليهود، وكيف أنهم المحرك الخفي للحروب، وما المسيحيين إلا أداة لتحقيق ذلك، أما باقي البشر فهم العبيد ودماؤهم مستباحة، ورغم ذلك حمى بن نبي اليهود في تبسة، حينما تعرضوا للخطر، كدليل إنسانيته. تعرض المتدخل أيضا لمشروع كانت تبنته مكتبة الإسكندرية بمصر سنة 2000، تحت رعاية مديرها المثقف اسماعيل سراج الدين، خاص ب"أكبر علماء النهضة"، لتقديم تراثهم للأجيال الصاعدة التي لم تتطلع على إنجازاتهم كتب هو مقدمته. وقال الدكتور طالبي، إن بن نبي أصبح في باريس عقلا براغماتيا علميا، فند مقولة فرنسا بأن العقل الجزائري "أنديجاني"، لتحقيره، فكان مفكرا مستقلا وضع يده على مشكلات محورية، عبر عنها ببساطة وحاور الغرب منذ سنة 1931، كما في "شاهد العصر" لينتقد الاستعمار والإيديولوجيات الغربية، وسعى فيما بعد، أي منذ دخوله الجزائر في 1963، إلى إثراء الوسط الجامعي بمفاهيم الحضارة والإيديولوجية والثقافة وسماها "آفاق الجزائر"، وكان نواة المؤتمرات الإسلامية، وكانت كتبه لا مثيل لها في المشرق، طرح فيها مأساة الأمة العربية والإسلامية، مع تحليل عميق لمراحل التاريخ بنظرة واعية ومنطقية، ليتنبأ بأحداث الراهن والمستقبل. بدوره، تناول الدكتور عبد القادر بوعرفة من جامعة وهران، في مداخلته "بعد نصف قرن على وفاته كيف نقرأ بن نبي" الدين الذي لبن نبي علينا، وهو إعادة الاعتبار له وقراءة جديدة لتراثه واستئناف مساره، لأنه رأسمال الجزائر، وتفادي كل أشكال الاجترار، إذ لم تعد القراءة التقليدية لفكر مالك بن نبي، حسبه، مفيدة وناجعة، سواء لدارسها أو موضوع الدراسة، فإعادة بسط وعرض ما كتبه مالك بن نبي هو من قبل تحصيل الحاصل، وشرح الشرح، وتلخيص التلخيص. ويقول "إذا أردنا لمالك بن نبي الاستمرارية التاريخية وحياة العظماء، فلا بد أن نخرج أعماله من الدراسة التقديسية إلى الدراسة النقدية والتجاوزية". مواكبة حركة الإصلاح اتجه الدكتور بدران بن لحسن، من جامعة قطر، في ورقته إلى "الانفتاح النقدي على المعرفة المعاصرة في كتابات بن نبي"، والبحث ومناقشة طبيعة الاهتمام بفكر بن نبي، ومنظوره الفكري والقضايا الكبرى التي عالجها، وما الذي جعله "ابن خلدون الثاني"، فضلا عن مناقشة سؤال الحضارة وفكرة التوظيف التكاملي، ثم تحليل مشكلة التخلف في العالم الإسلامي، والعلاقة مع الغرب، ومن ثم الخلوص إلى شرح رؤية بن نبي لقضية التغيير الاجتماعي. كما قدمت الدكتورة نعيمة إدريس، من قسنطينة، "قراءة في آليات الفهم والتجديد للنص القرآني عند مالك بن نبي" مركزة على النص القرآني وعلاقته بالإقلاع الحضاري في حال العودة إليه، وقالت إن بن نبي واكب حركة الإصلاح ودخل للنص القرآني برؤية جديدة، مستلهما من دراسات التراث ومن المناهج الغربية، بعيدا عن التقليد العادي. بن نبي والأبعاد المعرفية والحضارية خصصت الجلسة الثانية ل"بن نبي والأبعاد المعرفية والحضارية"، وأدارها الدكتور بدر الدين زواقة من جامعة باتنة، قدم فيها الدكتور بن مزيان بن شرفي من جامعة وهران "المسألة الثقافية والمشترك الجمالي عند مالك بن نبي"، تناول فيها حضور المسألة الجمالية في المشروع الحضاري لمالك بن نبي، من خلال تأكيده على أهمية الحس الجمالي في الإنتاج الثقافي والبناء الحضاري، كما يقف المقال على منابع ومرجعيات الوعي بالمسألة الجمالية عند فيلسوف الحضارة، وكذا الخصوصيات التي تنفرد بها نظرته داخل الفكر الجمالي، ومدى فعاليتها في واقع المجتمعات العربية الإسلامية. قدم الدكتور التونسي محمد الطاهر الميساوي، المقيم بماليزيا، ظروف انخراطه في عملية ترجمة أعمال بن نبي منذ سنة 1991، حينما حضر أول ندوة في العالم عن بن نبي في ماليزيا، وهناك لاقى التقدير، خاصة أن زوجته جزائرية، ليقترح عليه رجل اقتصاد باكستاني مهمة ترجمة بن نبي، ليكتشف المتحدث أن لبن نبي عالم شاسع، له مصطلحاته التي نحتها بنفسه أو طوعها، كما أن عملية ترجمة أعماله عليها أن تراعي السياقات والتوثيقات المرفوقة مع الترجمة، واقترح بالمناسبة، إصدار أعمال بن نبي الكاملة، منها كتاباته هنا وهناك. مالك بن نبي وقضايا الراهن الجلسة الثالثة التي أدارها الدكتور منير بهادي خصصت ل "مالك بن نبي وقضايا الراهن"، ونشطت المداخلة الأولى آمنة محمود أبو حطب من فلسطين، وكانت عن "فلسطين والتحرر من القابلية للاستعمار"، وتحدثت عن مسألة اليهود التي عالجها بن نبي منذ بداية القرن 20، وتناول الهيمنة اليهودية ونكبة 1948، وقدم طرحا مختلفا، موضحا أن اختراق اليهود للغرب والشرق تعززت بعد الحرب العالمية الثانية، وأن فلسطين ترجع عندما يسترجع المسلمون حضارتهم التي سقطت مع الموحدين بالأندلس. أما الدكتور عماد الدين إبراهيم عبد الرازق، من مصر، فتحدث عن "التكتلات العالمية الجديدة ونقد الهيمنة الغربية عند بن نبي"، مؤكدا أنه انتقد الهيمنة الغربية وسبق عصره بقراءاته الواعية للتاريخ والأحداث، واستشرافه للمستقبل مع كل تنبؤاته السديدة، منها فكرة التكتلات العالمية. تطرق الدكتور والباحث المعروف عبد الرزاق بلعقروز، من جامعة سطيف، ل"التفكير مع مالك بن نبي في ظل سلم الحاجات الحالية نحو معرفة تطبيقية"، وقال إن مرحلة معرفة بن نبي قد انتهت، فكل الدراسات والنصوص قد وفت ذلك، والمطلوب اليوم التعاطي ضمن الحاجات الحالية، أي بإشكالياتنا نحن وليس بإشكاليات بن نبي، بالتالي التفكير معه وتجاوز ضرورة أن نعرفه وكفى، وماذا بقي فيه لنستدعيه، وتثمين إصلاح جهاز التفكير، علما أن هناك أمراض تفكير، حلها بن نبي، للإجابة على مشكلتنا الحضارية، والمشكل يبقى في أننا تخلينا عن إبداعنا كأمة واكتفينا بالنظريات التطبيقية المستوردة، كما أثار مرحلة منسية من الحضارة، تناولها بن نبي، وهي مرحلة الروح التي تسبق العقل، علما أن بن نبي دعا إلى تجديد الصلة مع الله على منهاج التصوف المعرفي، لتعزيز الطاقة الروحية المحفزة للعقل، ومن الخطأ أن يسبق العقل الروح والوجدان في مسألة الحضارة. أما الدكتور هشام شراد، من جامعة سطيف، فتطرق في مداخلته باللغة الفرنسية، لغياب عالم الأفكار في العالم الإسلامي، فغاب الإنتاج السياسي والاقتصادي والمعارف التطبيقية التي تتماشى والواقع الاجتماعي، ليصبح العالم الإسلامي صورة مشوهة لحضارة الغرب.