تحدى الاستعمار الفرنسي بلوحاته المكافحة، وواصل مسيرته الفنية بعد الاستقلال بكل تألق وتميّز، ليصبح أحد الفنانين التشكيليين المرموقين بالجزائر، إنه الفنان شكري مسلي الذي تتواصل فعاليات معرضه الكبير في متحف الفنون الحديثة والفنون المعاصرة إلى غاية العشرين من الشهر الجاري. ما تزال لوحات مسلي تصنع الحدث بمتحف الفنون الحديثة والفنون المعاصرة بحي العربي بن مهيدي بالعاصمة، كيف لا وهي تغطي الطابق السفلي للمتحف برمته وتشكل حلقات من مسلسل عنوانه "مسلي إفريقيا". الحلقة الأولى للمسلسل انطلقت منذ زمن بعيد، وبالضبط منذ عهد الاحتلال الفرنسي، حيث عمل مسلي الذي كان طالبا بمدرسة الفنون الجميلة على رسم لوحة سنة 1951تحت عنوان: "المسيح يصرخ تحت قصف قنابلكم".. معبرا بذلك عن تهكمه إزاء الفرنسيين الذين يتحدثون عن سماحة الدين النصراني وفي نفس الوقت يعاملون الجزائريين بقسوة وضيم شديدين. وفي نفس الحلقة، رسم مسلي أحداث ساقية سيدي يوسف ومظاهرات في المغرب وغيرها، ليشكل برسوماته سلاحا نفاذا ضد هذا الاستعمار. وفي هذا السياق قال مسلي أن بداياته في عالم الفن التشكيلي لم تكن سهلة أبدا حيث تساءل في أكثر من مرة عن اختياره للرسم في زمن كان الشعب الجزائري يعيش تحت وطأة الاستعمار.مضيفا انه كان يمر على ساحة الشهداء الحالية قبل أن يتوجه إلى مدرسة الفنون الجميلة، وكان يحز في نفسه أن يرى كل مظاهر الفقر والحاجة التي يتخبط فيها الشعب الجزائري، فقرر أن يتخذ من عالم الفن التشكيلي سلاحا له يتحدى به هذا الاستعمار، علاوة على أسلحة أخرى. ها قد جاء الاستقلال، ومع هذه الفرحة جاء التفكير في أسلوب معين من الفن التشكيلي، حيث تساءل مسلي هذه المرة عن الأسلوب الأفضل الذي يتحلى به فنه، ما بين الثقافات الجزائرية المتنوعة من عربية أمازيغية إفريقية، ليصل إلى نتيجة مزج كل هذه الثقافات، عن طريق الاعتماد على "الأوشام" التي يراها تمثل جانبا مهما من الثقافة الجزائرية ومنها الإفريقية بصفة عامة، فكانت الحلقة الثانية من مسلسل مسلي الإفريقي، فرسم في لوحاته الكثير من الأوشام في اطر ومضمون اللوحات، وكأن هذه اللوحات عبارة عن قطع من الزرابي والفخار ملتصقة ببعضها البعض، وكل ثقافة وضعت جزءا منها فيها فكانت لوحات مسلي فضاء الالتقاء بينها. هل توقف مسلي عن هذه الحلقة وأنهى بذلك مسلسله الممتع والأخاذ؟ لا أبدا فهي انطلاقة جديدة لمسلسل لن يعرف نهاية، وهو الذي عرف بداية مميزة بالأوشام، فجاءت الحلقة الثالثة بلوحات تعني الأجداد، حيث رسم فيها مسلي ودائما بأشكال هندسية، الأجداد وهو يحملون السلاح لحامية المرأة. المرأة ذلك الكائن الرقيق الذي ألهب شعور مسلي، إلى درجة تخصيصه لمعظم حلقات مسلسله لهذه المرأة، التي يقول عنها أنها جميلة وأنها حرة عندما تكون عارية رغم أنف المعقدين والمنافقين. رسم مسلي المرأة باللون الذهبي وجعلها وقريناتها في مواضع سمر وضحك أحيانا في الحمام وأحيانا في فضاءات أخرى، حيث يتبادلن الحديث وهن عرايا لتظهر بذلك أجسادهن الجميلة. التجول في معرض مسلي ممتع، ففي كل رقعة حكاية وفي كل جدار قصة تعبر عن مرحلة من المسيرة الفنية وحتى الحياتية لمسلي المجاهد بالفن، وبتقنيات مختلفة كالزيت على القماش والزيت على الورق والأركليك، هاهي لوحة "قيس وليلى" ، وهما يشكلان جسدين ملتحمين بعد أن التحمت روحهما، ولوحتين عن موضوع آخر ولكنه جزء من الحياة الجزائرية ألا وهي حياة الأزواج وحماة. اعتمد مسلي في هذه اللوحات على ألوان مختلفة وأشكال هندسية متناثرة هنا وهناك، وكأنها حقا قطع قماش من زراب مختلفة الألوان والأشكال، حتى شخصيات اللوحات جاءت على شكل رسومات هندسية وكأنها خارجة لتوها من علم الرياضيات، كما رسم مسلي الأجداد على نفس الشاكلة نذكر لوحة "أجدادي" التي رسمها سنة 1982 ولوحة "الجد الأزرق"، أيضا لوحة رسمها في إطار الطبعة الأولى للمهرجان الثقافي الإفريقي، حيث كان مسؤولا عن الفن التشكيلي في تلك التظاهرة، التي قال عنها أنها لوحة افريقية محضة. وينتقل مسلي إلى المرأة، حبيبته المرأة التي ألهمته فنه بشكل كبير جدا ، فرسمها في لوحات عديدة وهي محاطة بالأوشام ودائما في أشكال هندسية أحيانا برأس دائري وصدر مثلث وغيرها، وفي هذا السياق قال مسلي أن الأوشام تعني علاوة على تقليد جزائري، كل الرموز والأسرار التي لكل منا الحق في ترجمتها كما يريد، فرسم لوحة "التصديرة" ولوحة "الزوجان التوتم" و"امرأة معيّن"، إلا انه انتقل فيما بعد إلى رسم مخالف للمرأة فرسم ملامح جسدها بطريقة بعيدة عن الأشكال الهندسية الجافة، بل رسم جسدها وإن لم يكن كاملا بطريقة سحرية وأضفى عليه اللون الذهبي وإن كان قد حافظ في الآن نفسه على إطار مليء بالأوشام، وكذا على بعض الأشكال الهندسية والرموز البربرية. معتبرا أن العلاقة بين المرأة والاوشام في سريتها الدفينة وألغازها العميقة. وقام الفنان في بعض لوحاته بإضفاء لوحات أخرى عليها، فأصبحت لوحة رئيسية مرسوما فيها نساء مذهبات وتحتها مباشرة وأحيانا فوقها لوحة أخرى مرسوما فيها مستطيلات ملونة. كما رسم مسلي النساء جالسات في الحمام وأخريات بجنب النهر، يظهرن سعيدات وهن يتسامرن ويتناجين، فها هي لوحة "أربعة في حمام" ولوحة "حلم احمر" ولوحة "النهر" ولوحة " ترقصن من أجلي"، فهل رقصت النساء لأجل مسلي حقا؟ "أهدي أعمالي إلى المرأة والحب والشعر والحنان والفن التشكيلي"، هكذا تحدث مسلي في شريط مصور يعرض في المتحف الحاضن لمعرضه الأخير، وهو الذي يعتبر أول طالب ينال الشهادة العليا لمدرسة الفنون الجميلة، ليختتم حديثه بأن الفن التشكيلي لا جنس له ولا دين وليس تابعا لأي تيار سياسي، فهو من الثقافة والثقافة إنسانية لا حدود لها.