التعبير الإنجليزي للمسلسلات مقارب لماهية الأعمال التلفزيونية التي تدخل كل سنة فيما أسماه "بَزْنَاسِية الفن" بالسباق الرمضاني، بالإنجليزية تسمى هذا المسلسلات الطويلة ب soap opera والتعبير فيه الكثير من التعقيد. فكلمة soap تعني من جهة صابون، ولكنها إن دمجت ب opera أصبحت الكلمتان تحملان معنى واحدا، وهو مسلسل، واللعب على اللفظ يعني أن المسلسلات هي مسلسلات صابونية، أي منزلقة. معنى ذلك أنّها قادرة على أن تنقلك من موقف إلى موقف درامي آخر إذا ما تسّمرتَ أمام التلفزيون (أو على اليوتيوب) لفترة طويلة، الانزلاق الأخطر الذي تسببه هذه الدراما الصابونية في الجزائر هو أنْ تُؤثر سلبًا على المشاهد المسكين الذي يُضيع قيّمه الروحية في 20 حلقة على الأقل أنتجت فقط بهدف التسلية المجردة، دون وعي حقيقي بضرورة إنتاج دراما تساهم في توجيه السلوك الاجتماعي وحماية البناء الاجتماعي أمام غزو الدراما الأجنبية المدبلجة. المتابع للدراما التلفزيونية الجزائرية في السنوات الأخيرة سيجد نفسه أمام أعمال مشوّهة مستنسخة من الدراما التركية أو الكورية بشكلٍ ساذج، هذه السرقات أضعفت مواضيع الدراما وأفرغتها من جوهرها، فتحولت إلى مادة اقتصادية تدخل سوق العرض خلال شهر رمضان المتّسم أساسا بكثرة الاستهلاك وانتعاش الإعلان. أمام كلّ المشاكل التي تواجه الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في الجزائر الممكنة الحلّ في حقيقة الأمر، تبقى المعضلة هي مشكلة النصوص التي أدخلت الدراما المحلية في أزمة هوية، حيث أصبحت الجزائر المعروضة في هذه الأعمال لا تشبه الجزائر التي يعيش فيها المشاهد الجزائري، فإذا ما كان من المفروض أن يكون الفن مرآة عاكسة للمجتمع، فإنّ المرآة هنا مسحورة (والعياذ بالله) فهي تعكس أشياء أخرى من خارج هذه الجغرافيا. الذي يغيب عن صنّاع الدراما في الجزائر هو أنّ النجاح المنتظر لترتقي للمنافسة على المستوى المغاربي والعربي هو مرهون في الأصل ومن الأساس بقوّة النص والموضوع، الدراما السورية مثلًا هي دراما روّجت لسوريا حتى جعلت المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج يتعرّف على تاريخ البلد، ثورته ضدّ الانتداب الفرنسي، أزماته الداخلية، ثورة الربيع العربي وتبعاتها من تهجير ولجوء ومعاناة وغيرها من المواضيع التي وقف عليها صنّاع الدراما في سوريا انطلاقا من كتاب متمكنين فعليا من أدوات الكتابة الدرامية، ومدركين بالعلاقة بين الدراما والثقافة الوطنية. اهتمام الدراما بأحداث الواقع الاجتماعي والقضايا التاريخية لا بدّ بأنه يسهم بشكل أو بآخر في تعزيز هوية المجتمع وتدعيم مشاعره وأخلاقياته، فالمواقف الدرامية في التلفزيون من المفروض أنّها تقدّم للجماهير فلسفة حياة زاخرة بالقيّم والمعايير. هذا الشرط لا يلغي أبدًا ضرورة التطرّق لما هو سلبي وإجرامي وغير طبيعي في الحياة اليومية للأفراد، لكن من غير المنطقي أن يكون ما هو هابط وغير أخلاقي الموضوع الرئيسي في كامل الأعمال باسم المحاكاة، والمحاكاة براء من هذا التفسخ. الدراما كشكل من أشكال التمثيل الثقافي لا ينبغي أن تبرز القيم السلبية على حساب القيم الإيجابية، ولا أن تصنع بطولات فارغة نبتت فجأة في بيئة موبوءة بالمخدرات والسرقة والآفات الاجتماعية، فالدراما اليوم لم تعد مرتبطة بالتلفزيون الذي كانت في السابق تجتمع حوله العائلة كلّ سهرة رمضانية، وإنّما هي اليوم تعرض في وسائط أخرى أكثر خصوصية يصعب تحقيق نوع من الرقابة فيها لا سيّما على القصر. فيضيع هنا الهدف الأسمى للدراما ويتم بدل ذلك الترويج لظواهر شاذة، بائسة وغريبة عن مجتمعنا مهما تفاقمت. ما طرحناه في الأعلى ليس له أي خلفية دينية أو شعبوية للانتقاص من قيمة الدراما المحلي، وإنّما هو من خلفية فنية بحتة، انطلاقا مما عرفناه عن الدراما منذ زمن أرسطو وإلى اليوم، فأنا كجزائري لطالما بحث عن جزائريتي داخل هذه الأعمال الغريبة، التي إمّا أن تكون في قصور ضخمة وسيارات فارهة وألبسة باهظة، وإمّا أن تكون في أحياء شعبية فوضوية ينهشها الفقر والهم، وتنتشر فيها الجرائم والمحرمات وكل أنواع الموبقات. وهو ما يؤكد حقيقة أن غالبية هذه النصوص مقتبسة عن أعمال أجنبية يعرفها ولا يعرفها المشاهد الجزائري، ولدت في جغرافيا أخرى، تعالج قضايا مجتمعات أخرى بعيدة عن قضايانا وتحدياتنا وآمالنا.