شاعر، مؤرخ، أديب، مفكر، مصلح وسياسي، كل هذه الخصائص اجتمعت في شخص رجل واحد ضم إليه كل أساليب النضال في الحياة منذ أن حمل لوحه ودخل على معلم قريته وهو لا يزال غضا، قائلا: (يرحم الله والديكم علموني)، ولد من أجل العلم، فكان معلما ثائرا، وعلما من أعلام الجزائر وقلما من أقلامها، كتب في كل الاتجاهات، إنه الأستاذ إبراهيم بن عيسى حمدي أبو اليقظان. الجنوب الجزائري حيث الشعر والنخيل والشمس، حيث يشعل الشعراء القمر ويحفونه بالنجوم ثم يتسامرون، في الجنوب أيضا تصفى الأفكار والسرائر وتحتفظ القلوب بشبابها مهما تقادم بها الزمن. وادي ميزاب الوادي الاستثنائي، الواحة المتميزة عن بقية الواحات بكل أشيائها الخاصة والعامة، أسواقها، عاداتها، تقاليدها، تعليمها، مدنها، مجتمعها، إنها الشيء النادر الذي لا يمكن وجوده إلا فيها. غرداية بأزقتها، بأسوارها، بطبعها وطبيعتها، تبهر السائح وتعطيه كلما تورط فيها المزيد من المفاجأة والمزيد من الإبهار والدهش والتميز والاختلاف على كل ما رآه وعرفه من مدن وقرى ونظم اجتماعية. غرداية أيضا لها ميزة أخرى واديها الاستثنائي، اشتهرت أيضا بإنجازاتها العلمية فأنجبت الكثير من العلماء المتميزين والأعلام الكبار منهم الأستاذ إبراهيم بن عيسى أبو اليقظان. ككل العظماء النموذجيين، ولد أبو اليقظان في أسرو سيدة شريفة تمتد أصولها إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فكان مولده ليلة الإثنين من شهر صفر سنة 1306من الهجرة النبوية الشريفة الموافقة ل 05 نوفمبر 1888م، والده هو الشيخ الحاج عيسى بن يحيى الذي كان محل ثقة بين قومه لأعماله الخيرية، كما كان عضوا في المجلس الديني (العزابة)، وقد توفي الحاج عيسى تاركا بنتا وثلاثة بنين أصغرهم إبراهيم. تعليمه : بدأت مسيرة إبراهيم العلمية بتميز حيث يروي معلمه الحاج عمر بن يحيى قائلا: "بينما نحن والتلاميذ في الدار إذ دخل علينا ولوحة في يده، فقال لنا بصوت يماجزه ظرف الصبا : يرحم الله والديكم علموني". أول ما بد أ العلم تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ثم دراسة العلوم المتداولة، فأخذ مبادئ التوحيد والفقه والأخلاق والنحو والصرف، وبعد أخذه هذه المبادئ أرسله أستاذه ومجموعة من التلاميذ إلى العلامة الشيخ طفيش الذي أخذ عنه بمدينة (بني يسجن) عاصمة ميزاب العلمية، الأصول، البلاغة، المنطق،التجويد والعروض. رغم شظف العيش وقلة المدخول كانت أحلام إبراهيم كبيرة، وإرادته صلدة في طلب العلم وركوب المغامرة والمخاطرة، حيث غادر بني يسجن إلى البقاع المقدسة سنة 1328هجرية عن طريق البحر مرورا بتونس فطرابلس فمصر فالحجاز، أدى فريضة الحج، وفي سنة 1329 هجرية حل بالمدينة المنورة وزار الروضة الشريفة وصلى على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. لم تكن رحلة أبو اليقظان بالرحلة السهلة إلى البقاع المقدسة، فقد قاسى في هذه الرحلة الشدائد وصارع الأهوال، مما اضطره إلى العودة إلى الوطن معرجا على دمشق، فبيروت، فأزمير، فطرابلس فتونس، وقد كان يمني نفسه في رحلته الالتحاق بجامع الأزهر الشريف إلا آن أمنيته لم تتحقق إلا بزيارة البقاع المقدسة. سنة 1331هجرية 1912م ذهب إلى تونس والتحق بجامعة الزيتونة وخصص أثناء ذلك أوقاتا لمزاولة شيء من الفرنسية بالمدرسة الخلدونية. سنة 1914م ترأس أول بعثة علمية جزائرية إلى الخارج، كانت وجهة البعثة إلى تونس بعد أن عاد إلى مدينة القرارة ودرس بها في مدرسة دار التلاميذ، وكانت عودته إلى تونس سنة 1325 هجرية. حياته الشعرية: بدأت تجربته الشعرية سنة 1326 هجرية وتميزت في مراحلها الأولى بجمعه للغريب من اللغة وبحثه وما ينسجم والقافية واستقامة الوزن، لينضج بعد ذلك ويتميز شعره بالحكمة والحماسة. انضم في تونس إلى الحزب الحر الدستوري وكان في اللجنة التقنية، كما كان يكتب في الصحافة مقالات سياسية في صحيفتي "المنبر" و"الصواب" التونسيتين وصحيفة "المنهاج" الصادرة بمصر. كان أبو اليقظان مولعا بالصحافة إلى حد العشق، فأنشأ أول جريدة سنة 1926م تحت اسم "وادي ميزاب" وكان يتم تحرير هذه الجريدة بالعاصمة الجزائر ثم ترسل إلى تونس لتطبع وتعود عن طريق القطار ليتم توزيعها في الجزائر، واستمرت على هذا المنوال لمدة سنتين، ثم صدرت له جريدة "ميزاب " 1930م وجريدة المغرب، والنور، والبستان، والنبراس، والأمة، وآخر جريدة أصدرها الفرقان 1938م. إلى جانب نشاطه الصحفي، أنشا أبو اليقظان المطبعة العربية التي لم تخل هي الأخرى من مضايقة ومراقبة البوليس الاستعماري لها. لم تكن أعمال أبو اليقظان ونشاطه مقصورين على الصحافة والسياسة، بل كان رجل إصلاح من الطراز الأول حيث انضم في سنة 1931 م إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ليتم انتخابه سنة 1934م عضوا بمجلسها الإداري نائبا لأمين المال إلى غاية سنة 1938م. أما نشاط أبو اليقظان في مجال التأليف، فله ما يقارب 50 مؤلفا ما بين مطبوع ومخطوط من دينية وتاريخية، خصوصا في تاريخ منطقة ميزاب، إلى جانب ديوانه الشعري. ومن القصائد التي سجلها له الزاهري في كتابه شعراء الجزائر في العصر الحاضر وسبق ونشرها في جريدة "المنهاج" المصرية، قصيدته "مدارج الخلاص والتحرير" والتي اخترنا بعضا من أبياتها: ( ابن صرح المجد عن أس الضحايا واشد عرش العلا رغم البلايا خض غمار الهول غوصا إنما لؤلؤ التيجان في بحر المنايا إنما الدنيا جهاد من ينم يومه داسته أقدام الرزايا ولنيل الحق أدوار غدت خطوات جازها كل البرايا ليس حكم النفي والسجن ولا الحكم بالشنق له إلا مطايا أي شعب نال ما نال إذا لم يقدم سلفا تلك الهدايا )
انتقل الشيخ أبو اليقظان إلى جوار ربه يوم الجمعة 29 صفر 1393هجرية الموافق 30 مارس 1973م في مدينة القرارة. هذا الصحفي الفذ، القلم العملاق، المصلح المتفتح الآخذ بأسباب العصر الذي اقتحم الحياة اقتحاما، وخاض غمارها خوضا، وواجه الصعاب تلو الصعاب، لو كان في بلد آخر لتحولت حياته إلى مسلسل تلفزيوني يبرز مناقبه وخصاله وإنجازاته، ويخلده ويعرف به الأجيال اللاحقة من بعده حتى تتأكد أن الصحراء لم تكن صحراء العطش والبحث عن الكلأ والرحيل المتواصل، بل هي واحة خصبة، ومدن عامرة، ومدارس نابعة بالعلم، وعلماء يتفجرون حكمة وذكاء وعلما، وما إبراهيم إلا أنموذجا ممن أنجبتهم الصحراء، تعلموا العربية في الجزائر وصنفوا المصنفات وأصدروا الجرائد وأداروا المؤسسات، فرحم الله إبراهيم أبو اليقظان.