يحيي الشعب الجزائري يوم غد ذكرى 19 مارس 1962 المجيدة، ليستعيد من خلالها نشوة النصر الذي تحقق له منذ 48 سنة، بفضل كفاحه المستميت وإرادته الفولاذية التي كسرت الطوق الاستعماري وأرغمت المستعمر الفرنسي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات التاريخية التي كللت بالتوقيع على اتفاقات إيفيان واسترجاع الاستقلال الوطني، وتوجت بالتالي إنجازات الدبلوماسية الجزائرية التي برزت إلى الوجود مع إعلان بيان أول نوفمبر 1954 الذي اعتمد نصه تدويل القضية الجزائرية كوسيلة من وسائل الكفاح. فإذا كان انتصار الجزائر في 19 مارس 1962 قد أسقط المشروع الكولونيالي وقوّض دعائم الصرح الاستعماري وفتح عصر التجدد والانعتاق، فإن إحياء ذكراه اليوم يحمل في طياته مشاعر العرفان بمكاسب الدبلوماسية الجزائرية التي برزت إلى الوجود مع إعلان بيان أول نوفمبر، واستمرت انجازاتها منذ تاريخ 19 مارس 1962 إلى يومنا هذا في كافة المعارك التي خاضتها البلاد وظفرت بها قصد تعزيز السيادة الوطنية والمحافظة على وحدة التراب الوطني واستعادة ثرواتها الطبيعية والتأكيد على مبادئها ومصالحها في الساحة الدولية. وسجل التاريخ للدبلوماسية الجزائرية دورا فعالا ظل يلازمها، ولا سيما في دفاعها عن المبادئ الإنسانية السامية، على غرار مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، كما كان للعمل الدبلوماسي إبان الثورة التحريرية دور هام في استقلال البلاد، وساهمت التحركات الحثيثة لأفراد جبهة التحرير الوطني في بلوغ الهدف المنشود الذي اندلعت من أجله الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954. كما يعيد الاحتفال السنوي بذكرى 19 مارس 1962 للشعب الجزائري نشوة النصر الكبير الذي توج سنوات النضال والكفاح المسلح ضد مستعمر مستبد أراد مسح الهوية الجزائرية من الوجود فتصدى له الجزائريون بكفاح بطولي وثورة تحريرية مظفرة، كسرت أحلام المستعمر الواهية وأعادت للوطن كرامته وعزته التي ينعم بها اليوم تحت سماء الحرية والاستقلال. وفي هذا اليوم الخالد تم وقف إطلاق النار بين الاستعمار الفرنسي وجيش التحرير الوطني بعد مفاوضات مضنية ومواقف متشددة خاصة من جانب الاحتلال الذي أراد فرض منطقه في تقسيم البلاد والاحتفاظ بالصحراء لصالحه. والحديث عن اتفاقيات إيفيان التاريخية وعما كللت به من إعلان وقف إطلاق النار الذي كرس انتصار الثورة التحريرية على المحتل الغاشم، يجرنا بالضرورة إلى التنويه بالعمل السياسي الذي خاضته قيادة الثورة التحريرية التي عمدت بالموازاة مع تكثيف العمل المسلح، إلى التركيز على تفعيل آلتها الدبلوماسية، من اجل تحقيق عدة أهداف واستراتيجيات، كان من أبرزها عزل العدو في الميدان الدبلوماسي وكسب المزيد من التأييد في الداخل والخارج، لا سيما من خلال إطلاع الرأي العام الدولي على اعمال الشنيعة التي كان يقترفها الجيش الفرنسي في حق الشعب الجزائري. واستغلت قيادة الثورة الوضع الدولي السائد آنذاك والمتميز بانعقاد المؤتمر الآفروآسياوي في 17 أفريل 1955 بباندونغ، والذي كان بمثابة نقطة انطلاق وتحول رئيسية في كفاح الشعب الجزائري مع إصداره لبيان تضامني مع الثورة الجزائرية. ومع بداية المرحلة التاريخية الثالثة من عمر الثورة التحريرية، والتي تميزت بتكثيف المستعمر الفرنسي لعملياته العسكرية ضد الشعب الجزائري، وبلوغ القمع البوليسي حده الأقصى في المدن والأرياف،، جاء رد جيش التحرير الوطني بخوض معارك منظمة اعتمد فيها خطة توزيع القوات على جميع المناطق من أجل إضعاف قوات الاحتلال وتخفيف الضغط على بعض الجبهات. وتم في 19 سبتمبر 1958 إعلان الحكومة الجزائرية المؤقتة التي أصبحت الممثل الشرعي للشعب الجزائري والمسؤولة عن قيادة الثورة سياسيا وعسكريا ولوجيستيا، وأعلنت في أول بيان لها عن موافقتها على إجراء مفاوضات مع الحكومة الفرنسية شرط الاعتراف المسبق بالشخصية الوطنية الجزائرية. وفي نوفمبر 1958 ومع تضاعف الانتصارات التي كانت تحققها الثورة التحريرية في الميدان، طرحت قضية الجزائر في الأممالمتحدة وفي مؤتمر الشعوب الأفريقية ب"أكرا" ولاقت تضامنا ودعما دوليا كبيرا، ما أرغم الجنرال ديغول، إلى الاعتراف في خطاب له بالجزائر العاصمة بالشخصية الجزائرية، ليعلن في 16 سبتمبر 1959 بعد انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية اعتراف فرنسا بحق الجزائر في تقرير مصيرها. وبداية من سنة 1960 شرعت الحكومة الجزائرية المؤقتة في التحضير للتفاوض المباشر مع المستعمر الفرنسي حول الشروط السياسية والعسكرية لوقف القتال وتوفير الضمانات الضرورية لممارسة تقرير المصير. غير أن المرحلة الرابعة من عمر الثورة المجيدة، لم تسلم من التصعيد الخطير للقتال في الميدان مع محاولة الفرنسيين حسم القضية الجزائرية عسكريا، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل بعد أن تجدرت الثورة وتعمقت في صفوف الشعب وأصبحت موجودة في كل مكان، فتكبد الجيش الفرنسي خلال هذه المرحلة خسائر فادحة، وتوسعت رقعة النضال الجماهيري بقيادة جبهة التحرير الوطني، التي نظمت مظاهرات 11 ديسمبر 1960، وعقدت مؤتمرها الثاني في مدينة طرابلس بليبيا في 1961، في الوقت الذي تم فيه على الصعيد الدولي عقد الدورة 16 للأمم المتحدة التي أبرزت أهمية الاتصالات المباشرة بين جبهة التحرير الوطني والحكومة الفرنسية، ودعت الطرفين لاستئناف المفاوضات بغية الشروع في تطبيق حق الشعب الجزائري في تقرير المصير والاستقلال. وكانت هذه الدعوة الأممية بمثابة الانتصار لوجهة نظر جبهة التحرير الوطني ودبلوماسيتها التي أرغمت فرنسا على التفاوض بعد أن تأكدت بأن الوسائل العسكرية لم تنفعها في شيء. وسعت فرنسا مرة أخرى من خلال مكائدها المفضوحة إلى تشويه صورة استقلال الجزائر عبر رسمها لخريطة جزائرية مبتورة من صحرائها وفرض قانون امتيازي للفرنسيين، وهي المقترحات التي رفضتها جبهة التحرير الوطني جملة وتفصيلا، ليتم بعدها الشروع في اتصالات ومفاوضات جديدة بين الطرفين لبحث القضايا الجوهرية، وتم ضبط الخطوط العريضة للاتفاق أثناء مقابلة تمت بين الوفد الجزائري والوفد الفرنسي في قرية فرنسية بالقرب من الحدود السويسرية، لتعقد بعد ذلك ندوة حول إيقاف القتال من 7 إلى 18 مارس 1962 في إيفيان، تدارس خلالها الوفدان تفاصيل الاتفاق، الذي توج بانتصار موقف جبهة التحرير الوطني وإقرار وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962، وإجراء الاستفتاء الشعبي في الفاتح جويلية، الذي كلل باستقلال الجزائر، وانتصار الثورة العظيمة التي قدمت للوطن وللحرية ضريبة غالية قوامها مليون ونصف المليون من الشهداء.