ونحن في شهر رمضان المعظم، لابد أن نتجه أكثر نحو عالم الروحيات ونبتعد عن عالم الماديات والشكليات، فننفض الغبار وربما الطين الذي تكدس على أرواحنا ونغوص في أعماقنا التي تناسيناها في حياتنا المادية، فنخرج فائزين بأهم عنصر في دنيانا ألا وهو الروح التي تعتبر جزءا من روح خالقنا الجليل. وفي هذا السياق، تعد الموسيقى الروحية أحد السبل التي تتشعب عن مسارنا هذا لتحقيق غاية التعمق في أرواحنا وكمثال عن ذلك الحفل الذي نظم أول أمس بالفضاء الثقافي القصبة بمسرح الهواء الطلق والذي نشطه الفنان الروحي محمد روان رفقة أعضاء فرقته الموسيقية. نعم، عاد روان إلى العاصمة بعد غياب دام ثلاث سنوات، ليطل على جمهوره الراغب في السفر نحو عالم الروح الجميل، ليغوص فيه بكل عفوية وبدون خوف وليعود إلى الوجود بقوة أكبر بعد أن يكون قد تخلى عن الشوائب التي علقت به طوال حياته المادية وأثرّت سلبا على روحه الطاهرة. وقدم روان أجمل قطعه الموسيقية منها التي نظّمها وأخرجها إلى الوجود وأخرى استسقاها من التراث العالمي، من خلال تزيينها بحلة جديدة على ذوقه، والبداية كانت مع القطعة الموسيقية ''نهر'' وهي من التراث التركي، أهداها إلى أطفال بن طلحة الذين عانوا الويلات من الإرهاب، فكانت موسيقى حزينة أنشأت في مخيلتنا صور الفاجعة التي ألمّت بهذه المنطقة في سنوات الإرهاب والتي ارتوت بدموع سكانها وفي مقدمتهم الأطفال فكانت شاهدا على مرحلة عصيبة عاشها البلد. ولم يقتصر روان على الموسيقى فقط في هذه القطعة، بل أضاف إليها بعض الكلمات التي أداها أمين، أحد أعضاء الفرقة والعازف على الآلات النفخية أيضا، فزادها قوة وعمقا وتأثيرا على السامعين. أما القطعة الموسيقية الثانية فجاءت بعنوان ''الرمال'' وحملت نوتات تأخذك إلى الصحراء وأنت جالس في مكانك، فكانت الرمال تتحرك والسحب تنقشع بسرعة في منظر طبيعي خلاب يميّزه السكون الذي تعزف على أوتاره الطبيعة. القطعة الموسيقية الثالثة، أرادها روان تكريما للحاج محمد العنقا والذي قال عنه انه الأب الروحي لأغنية الشعبي والذي أدخل آلة المونودول إلى الجزائر، الآلة التي يعزف عليها روان، فكانت هذه القطعة قريبة من النوتات التي تستعمل في طابع الغناء الشعبي ليختتمها الفنان بنوتات العنقا الجميلة. وانتقل الفنان إلى القطعة الرابعة والتي قال أنها فاتحة مسيرته في الفن الروحي وتحمل عنوان ''حلم'' بحيث حلم روان بتأديته لها وعندما استيقظ سمع آذان الفجر وتنبه إلى أن المقام الذي استعمل في الآذان وفي قطعته التي حلم بها، هو نفسه ألا وهو ''الحجاز''، فكانت هذه بدايته مع الفن الروحي. وحملت هذه القطعة روح العبادة والتضرع نحو الخالق، شدت بحق أنفاس الحاضرين سواء العازفين أو الجمهور، فكانت لحظات روحية أخذت الجميع إلى عوالمه كلا على حدة، حيث يوجد الصفاء والسكينة أو الارتباك والاضطراب حسب طبيعة الروح، لتكون العودة صعبة وربما غير سليمة بالنسبة للبعض، إلا أن هذه الرحلة تبقى ضرورية لإصلاح ما يمكن إصلاحه في هذا العالم الخفي..عالم الروح. وواصل روان حفله بتقديم قطع موسيقية أخرى، بعضها هادئ وديع وبعضها الآخر فيه إيقاع سريع وقوي ومن بينها قطعة ''الليالي البيضاء'' التي عزفت في طابع هادئ، دفعنا إلى التفكير في ليالينا التي قضيناها في السهد ونحن نفكر في غدنا ونتساءل عنه، هل سيكون كما كان اليوم، حزينا؟ أم انه سيكون مختلفا وستتغير حياتنا ونحقق أحلامنا يا ترى؟ وعرف الحفل أيضا تقديم روان لوصلة من موسيقى الطابع الشعبي رفقة فيصل، طفل صغير لا يتجاوز سنه التاسعة، يعزف على الدربوكة، فكانت هذه اللحظات مثل التي سبقتها، مشتركة بين الجميع وهو أهم ما ميز حفل روان الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى تقاسم الأحاسيس مع جمهوره في سفرية الروح.