غادر آخر فيلق قتالي أمريكي أمس العراق بعد ثماني سنوات من الاحتلال واضعا نهاية لمرحلة أولى من عملية احتلال عسكرية غير مسبوقة في العلاقات الدولية أبقت الساحة العراقية مفتوحة أمام سيل من التساؤلات والاحتمالات حول ما يخفيه يوم غد لبلد دخل مرحلة الانهيار التام. فبعد ثماني سنوات من الوعود التي حملها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مبتهجا للعراقيين وكل العالم بأن العراق دخل مرحلة الديمقراطية وطوى صفحة الديكتاتورية ''الصدامية'' وفتح عهد الرفاه لشعب أحد أغنى دول العالم، مازال العراقيون يعيشون الكابوس الدامي فلا الرفاه تحقق ولا الديمقراطية سادت بعد وديان الدماء التي يفتح العراقيون أعينهم يوميا عليها وسط مشاعر الخوف والرعب. وتيقن أبناء الشعب العراقي وحتى أولئك الذين خرجوا لاستقبال دبابات ''الهامر'' و''ابرامس '' الأمريكية التي اعتقدوا أنها خلصتهم من ديكتاتور العصر أنهم فتحوا أعينهم على مأساة لم يكونوا يتوقعونها من فقر مدقع أصابهم ولا من حالة لااستقرار أنهكت كاهلهم بل أن الذين قاموا بتفكيك تماثيل الرئيس المعدوم أعادوا حساباتهم وهم الآن يتحسرون على تلك السنوات التي كانوا ينامون فيها وأبواب منازلهم مفتوحة بل أنهم أصبحوا يخشون حلول ظلمة الليل وما تخفيه من مفاجآت غير سارة. والمفارقة انه بدلا من أن يبتهج العراقيون برحيل القوات القتالية الأمريكية من بلدهم فإنهم استيقضوا والحيرة تنتابهم من غد يحمل مجاهيل كثيرة إلى درجة جعلتهم يطالبون ببقاء هذه القوات ليس حبا فيها ولكن لأن الجيش العراقي فكك وفق خطة مدروسة من بول بريمر الذي حكم العراق بعد الغزو الأمريكي. وبنفس الطريقة التي طمأن من خلالها الرئيس الأمريكي السابق العراقيين بالمستقبل الزاهر قبل ثماني سنوات والهالة الإعلامية التي رافقت عملية مغادرة القوات القتالية الامريكية نهاية هذا الاسبوع فإن الوضع في العراق يبقى الآن مفتوحا أمام أسوأ الاحتمالات في ظل عدم جاهزية قواته الأمنية في وقت فشلت فيه القوات الأمريكية في احتواء عمليات المقاومة التي حاولت تشويه صورتها بإلصاقها بتنظيم القاعدة ووسط توقعات بعودة الميليشيات الطائفية والعرقية التي زرعت الرعب في كل المناطق العراقية وحصدت في سياق صراعها أرواح آلاف العراقيين من مختلف الطوائف. وإذا سارت الأوضاع في هذا الاتجاه الكارثي فإن العراق سيكون مهيأ أكثر من أي وقت مضى لاحتمالات تفككه الجغرافي والطائفي بين الشيعة والسنة والأكراد . وهي فرضية لا يستبعدها الكثير من المتتبعين بالنظر إلى النزعة الطائفية التي تكرست في البلاد طيلة سنوات الاحتلال التي أججت الشعور بالخوف من الآخر والذي أصبح العملة الأكثر تداولا في تعاملات الشيعة والسنة والأكراد في حلقة قد تدفع إلى تفكك مجتمع لم يكن يعرف مثل هذا العداء قبل الاحتلال الامريكي. والأكثر من ذلك فإنه لا حديث اليوم في العراق سوى عن انزلاق أمني أكثر عنفا قد يعيد يوميات العراقيين إلى تلك الأيام السوداء التي طغى عليها الأحمر القاني بسيول الدم العراقي في وقت اعترف فيه قائد العمليات الخاصة الجنرال الأمريكي باتريك هيغنس أن هيكلية تنظيم القاعدة في العراق لم تتأثر بما يؤكد احتمالات استغلالها الظرف الحالي لملء الفراغ الذي ستتركه القوات الأمريكية على الأرض في ظل عدم جاهزية القوات النظامية العراقية على الاضطلاع بمهمة ضمان الأمن في المدن العراقية. وهو الاحتمال الوارد جدا أيضا في ظل فشل الطبقة السياسية العراقية في تجاوز خلافاتها الضيقة والتي حالت دون تمكنها من تشكيل حكومة وحدة وطنية منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات العامة في السابع من شهر مارس الماضي.ويكون هذا الفشل عاملا ستستغله مختلف التنظيمات العراقية لفرض منطقها والتحول إلى رقم لا يمكن تجاهله في معادلة تعددت أطرافها وتضاربت مصالحها وحساباتها حد التنافر والقطيعة النهائية. وهي معطيات قد تتفاعل خلال الأيام والأسابيع القادمة باتجاه الاحتمالات الأكثر سوءا لتعود حسابات كل الأطراف إلى نقطة البداية بفارق أن العراقيين فقدوا أمنهم ورفاههم لديمقراطية أمريكية مزيفة ورفاه كان مجرد حلم زائف.