أبانت الحكومة الاسبانية في صفقتها المشبوهة في إطلاق سراح رعيتيها البير فيلالتا وروك باسكوال عن أنانية مفرطة في تعاملها مع الموقف وما كان يهمها سوى إنقاذ حياة مواطنيها دون مراعاة نتائج صفقتها على مواطني دول أخرى. وحتى وان أراد رئيس الحكومة الاسباني خوسي لويس رودريغيث ثباتيرو التظاهر ب''المنتصر'' في قضية شغلت الرأي العام الاسباني لعدة أشهر عندما أعلن عن خبر عملية الإفراج عن المواطنين الاسبانيين فإنه لم يتمكن في المقابل من إخفاء ملامح المتورط في صفقة دفع أموال ضخمة مقابل إتمام هذه العملية. وهو ما يفسر الكلمة التي أرادها قصيرة للإعلان عن خبر الإفراج عن الرهينتين وحتى الصحافيين الذين حضروا اللقاء تم اختيارهم بعناية كبيرة وبتعليمة مسبقة بعدم طرح السؤال المحير :هل دفعت مدريد فدية مقابل تحرير مواطنيها؟ والحقيقة انه لم يعد خافيا على احد الآن أن مثل هذه الصفقات لا يمكن أن تتم دون دفع فدية بل حدوث العكس هو الذي يدفع إلى التساؤل بدليل التجارب السابقة في كل عمليات الاختطاف. ولكن خطورة ما حدث خلال السنوات الأخيرة ويحدث في منطقة الساحل هو أن عمليات الاختطاف أصبحت وكأنها صناعة مربحة ليس لمن أصبحوا يسمون أنفسهم ب''الوسطاء'' الذين أقاموا علاقات وطيدة مع التنظيمات الإرهابية ولكن حتى بالنسبة لجهات في دول المنطقة التي أصبحت متورطة بطريقة او بأخرى في مثل هذه العمليات على اعتبار أن مفاوضات وعمليات التبادل تتم عادة بعلم السلطات وأجهزتها الأمنية التي تتابع كل صغيرة وكبيرة حول عمليات الاختطاف وأماكن تواجد التنظيمات المسلحة ونطاق انتشارها ومحاور تحركها ومخابئها ومصادر تموينها، ولا يهم بعدها ماذا تفعل بتلك الأموال الطائلة التي عادة ما توجه لشراء أسلحة للفتك بأرواح المئات من مواطني دول أخرى. وحتى وان تظاهرت السلطات الاسبانية بأنها أتمت صفقة إطلاق سراح رعيتيها مقابل إطلاق سراح عمر سيد احمد ولد حمه المعروف باسم عمر الصحراوي المرتزق المتورط في عملية الاختطاف شهر نوفمبر الماضي فإن قبول العدالة الموريتانية إطلاق سراحه بدعوى تسليمه لسلطات بلاده في مالي الا مجرد الجزء الظاهر من عملية مشبوهة وما كان للتنظيم الإرهابي أن يقبل فقط بإطلاق هذا الصحراوي لولا تعهد مدريد بدفعها عشرة ملايين اورو له. وتكون مدريد بذلك قد غلبت أنانيتها لإنقاذ رعيتيها وكأن حياتهما أغلى من حياة أولئك الذين سيموتون بأسلحة سيتم شراؤها بأموال فدية ما كانت لتتم. واستغل التنظيم الإرهابي الوضع الهش لحكومة ثباتيرو على الساحة الداخلية وسيل الانتقادات التي تتعرض له من المعارضة اليمينية بسبب انهيار الاقتصاد الاسباني وأيضا فشل العملية العسكرية التي قامت بها قوة خاصة فرنسية لتحرير الرعية الفرنسي ميشال جيرمانو قبل شهر لممارسة ضغوطها على ثباتيرو لدفع الفدية المطلوبة وهو ما حصل في النهاية وخاصة وان هذا الأخير ما كان سيتمكن من مواجهة انتقادات إضافية بمقتل الرهينتين في حال عدم دفع الفدية المطلوبة منه. ويكون تنظيم القاعدة بذلك قد طبق مقولة ''اضرب الحديد وهو ساخن'' وبكيفية جعلت الحكومة الاسبانية ترضخ أسابيع فقط لمطالبه وكانت فقط تبحث عن غطاء لإتمام الصفقة وكان استعمال ورقة عمر الصحراوي بمثابة ذلك الغطاء المطلوب حتى تبقى مدريد في منأى عن أية شكوك. ولكن التنظيم الإرهابي فضح الصمت غير البريئ لاسبانيا عندما أكد أن إطلاق سراح الرهينتين ''تم بعد أن تم تلبية كل مطالبنا'' والمؤكد أن عمر الصحراوي لم يكن يهمه حياة الرهينتين بقدر ما كانت تهمه المبالغ الضخمة التي سيجنيها من صفقة جاءته من السماء. وتأكدت أنانية السلطات الاسبانية وقبلها الفرنسية في قضية الإفراج عن الجاسوس الفرنسي بيار كامات الذي استدعى تدخلا مباشرا من الرئيس نيكولا ساركوزي لدى الرئيس المالي امادو توماني توري من اجل إنقاذ جاسوس المخابرات الخارجية الفرنسية في تصرف سبق للسلطات البريطانية أن رفضته في قضية الرعية البريطاني ادوين داير الذي اغتيل في الثالث جوان من العام الماضي المختطف بسبب رفض لندن تلبية الخاطفين بفديته. وهو ما يدفع إلى التساؤل عن النوايا الخفية لتواجد هؤلاء الرعايا في أماكن لا عيش ولا حياة فيها وكان يتعين على دولهم أن تحذرهم منها وهي التي تسارع في كل مرة إلى إصدار بيانات تحذيرية من مخاطر التوجه إلى أماكن أكثر أمنا في هذا البلد او ذلك بدعوى الخوف على حياتهم فما بالها بمناطق قاحلة في شمال النيجر او مالي او موريتانيا لولا وجود خلفيات استخباراتية . والمفارقة أن ظاهرة الاختطاف ودفع الفدية أصبحت أشبه بصناعة مربحة اتخذها البعض كمصدر ربح سهل ولكن خطورتها تكمن في تورط بعض الجهات الرسمية في بعض دول المنطقة في مثل هذه الصفقات المشبوهة والتي بدأت تتوسع بشكل يدفع إلى طرح الكثير من علامات الاستفهام بل أنها أصبحت أمرا عاديا ومألوفا وهو ما شجع تنظيم القاعدة على تكثيف عمليات الاختطاف التي تحولت إلى مصدر لتوفير أموال لقتل الأبرياء. وهو يجعل من هذه القضية أمرا محيرا ويستدعي تدخلا صارما من مجلس الأمن الذي انتهكت لائحته التي صادق عليها العام الماضي والخاصة بتجريم دفع الفدية للتنظيمات الإرهابية مهما كانت المبررات. والمهمة ملحة حتى وان كانت تبدو صعبة إذا عملنا أن دولا صادقت على هذه اللائحة هي اول من خرقها بعد أن غلبت مصالحها الظرفية بدعوى إنقاذ حياة رعاياها ولكنها لم تفكر في حياة أناس آخرين سيدفعون ثمن منطق ''فليذهب الآخرون إلى الجحيم''؟