تتجرد حياة بعض الناس من الراحة نتيجة اضطرابات يعانون منها أو جراء صدمات استهدفتهم فأوقعتهم في دوامة الضغط والتوتر··· والأكيد في مثل هذه الحالات هو أن شفاء الناس مرهون بدواء غير مادي يوجد غالبا بحوزة الطبيب النفساني، لكن هل يملك الأفراد في المجتمع الجزائري ثقافة استشارة الطبيب النفساني؟ تتعرض النفس البشرية مثلها مثل الجسد إلى الأمراض، حيث أن علاجها لا يتوقف بالضرورة على كيس دواء أو راحة الفراش، فقد يتطلب الأمر مختصا يفهم لغة النفس، ذلك أن المجتمعات الحديثة لم تعد تولي أهمية للجانب الفيزيولوجي فحسب بل أدركت أهمية التكفل النفسي الذي فرض نفسه في حيز اهتماماتها، والجزائر بدورها اتجهت نحو إعطاء أهمية للعناية النفسية بعد أن تفتحت على العالم ومجرياته· ولأن تقدير أهمية الطبيب النفساني تقاس بدرجة الإقبال عليه طرحنا سؤالنا على أشخاص ينتمون الى مستويات تعليمية متفاوتة فورد في إجابة البعض أنهم لا يرفضون الذهاب الى الطبيب النفساني في الحالات التي تسوء فيها أحوالهم النفسية جراء بعض مشكلات الحياة اليومية، وما ينجر عنها من اضطرابات وأفكار مزعجة تكدر صفوهم فقد يعثرون مع المختص النفساني على المفاتيح التي تفتح أبواب النفس الموصدة وتخلصها من العقد أو من الإحباط الذي يسود نظرتهم إزاء الحياة·في حين هناك من يفضلون مواجهة مشاكلهم بنفسهم طالما أنهم يدركون سبب معاناتهم ومصدر توترهم، انطلاقا من اعتقاد مفاده ليس بالضرورة أن تحل جلسات الكلام مع الطبيب النفساني المشاكل المسببة للكآبة والإحباط· وبهذا الخصوص يؤكد العديد من المختصين في علم النفس أنه إذا كانت النكبات التي تعاقبت في المجتمع الجزائري قد كشفت عن عجز الطرق التقليدية في مواجهة الإضطراب والصدمة النفسية بدءا بالإرهاب وإنتهاءا بالفيضانات والزلازل، إلا أنها تكون قد دفعت وتيرة التفكير في تطوير أساليب العلاج النفسي وتقنياته من باب الحفاظ على سلامة الصحة النفسية للمجتمع، سيما ضحايا الصدمة النفسية وهو ما يترجمه تكريس الجزائر لمسعى تكوين الأطباء والأخصائيين لمواجهة ظاهرة الصدمة النفسية الناتجة عن الكوارث والأحداث العنيفة· ففيما مضى كان البعض يطرح تساؤلات عدة حول مهنة الطبيب النفساني، لكن تعرض الأفراد بعد تعاقب النكبات على المجتمع الجزائري الى تأثيرات خطيرة أخلّت بتوازنهم النفسي وانعكست على حياتهم المهنية والإجتماعية، أدى الى إبراز الحاجة الى التكفل النفسي بهؤلاء الضحايا، ومنه عرف الناس دور الطبيب النفساني، فالإنسان الذي يعاني من تبعات المرض النفسي يحس بلا شك بحاجته الى من يساعده ويخفف عنه، إذ تدفعه المعاناة آليا لطلب العلاج· وحسب توضيحات بعض الأطباء النفسانيين، فإنه من ضمن الأسباب التي تجعل البعض يتحاشون الطبيب النفساني تفكيرهم بأنه غير قادر على حل مشاكلهم والقضاء على أسباب معاناتهم، ذلك لأن الإنسان بطبيعته يبحث عن الملموس والمادي، في حين أن علم النفس يقدم له مساعدة ذات طبيعة معنوية·· فالطبيب النفساني لا يملك عصا سحرية لكل المشاكل، إنما يقدم المناهج التي ترفع معنويات المريض وتساعده على مواجهة المشكلة، والملفت للانتباه في المسألة أيضا هو خلط بعض الأفراد بين الطب النفسي، والطب العقلي، حيث أن نظرة المجتمع القاصر التي تعتبر الطبيب النفساني طبيبا للمجانين تحول دون مباشرة البعض للعلاج النفسي· بروز أهمية العلاج النفسي مرهونة بالتحضر وتعتبر الأستاذة الجامعية منيرة زلوف مختصة في علم النفس، أن الإيمان بأهمية العلاج لدى الطبيب النفساني يقترن بطبيعة المعتقدات المعتنقة، وبدرجة حضارة المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد، فكلما كان أفراد المجتمع متحضرين وعلى إطلاع بكل ماهو حديث كلما كان أفراده مؤمنين بضرورة العلاج النفسي، حيث يفضل الشخص المتحضر غالبا أن يأخذ إبنه عند الطبيب النفساني بدل المشعوذ، في حين كلما كان المجتمع أقل تحضرا وأكثر تمسكا بمعتقدات الأجداد كلما كان المشعوذ أو "الطالب" وجهة أفراده في حالة الإصابة بالقلق أو الصدمة· لكن بالمقابل مهما كانت درجة التحضر، فإن الآباء في معظمهم يرفضون على الإطلاق أن يزور أبناءهم المرضى نفسيا طبيب الأمراض العقلية حتى إذا كانت حالتهم تستدعي ذلك، حيث أن اللجوء إليه لا يتم إلا في حالة إصابة الفرد بالجنون· وتضيف المختصة النفسانية منيرة زلوف أن زيارة الطبيب النفساني أصبحت ظاهرة عادية تقريبا بالعاصمة، بدليل انتشار عيادات الطب النفسي على مستوى مختلف دوائرها، حيث أن أفرادها يقدرون قيمة علم النفس في حياتهم، ويشار هنا الى أن العلاج بالقرآن (الرقية) يكون غالبا مقصد الأفراد المتدينين بالعاصمة· وعلى خلاف ذلك نلاحظ أنه كلما نزحنا من الشمال الى الجنوب كلما انعدم الطب النفسي، مقابل انتشار ظاهرة العلاج عند المشعوذ، فالعديد من الأفراد في بعض مناطق الجنوب لا يعرفون الطبيب النفساني، حيث أن عدد الأطباء النفسانيين بهذه المناطق جد قليل·· والمثير هو أنهم يفوزون بلقب أطباء المجانين، وهو ما تمليه عليهم المعتقدات الشعبية·