يجول أزيد من 24 ألف مختل عقليا متشرد مختلف شوارع المدن والقرى حسب آخر رقم كشفت عنه وزارة التضامن الوطني نهاية سنة 2009 في الوقت الذي يرشح فيه المختصون هذا العدد إلى الارتفاع مستندين إلى عوامل كثيرة كتنامي ظاهرة الإدمان على المخدرات وصعوبة الظروف الاجتماعية وما تخلفه من اضطرابات نفسية لدى الأشخاص. وتعمل الدولة من خلال الوزارات المعنية على تحقيق التكفل الملائم بهذه الفئة حيث تم اتخاذ عدة تدابير بناء على تعليمة من رئيس الجمهورية يلح فيها على ضرورة محاصرة الظاهرة وإيجاد الحلول المناسبة لها لاسيما وأنها أصبحت تشكل خطرا على المارة. أصبحت ظاهرة انتشار المختلين عقليا بشوارع مدننا الكبرى وساحاتها العمومية تلفت الانتباه بشكل كبير خاصة في الآونة الأخيرة، حيث نجدهم يجوبون الشوارع ويخلقون جوا من القلق في أوساط المواطنين نتيجة بعض السلوكات التي تصدر عن الكثير منهم تصل إلى حد الاعتداءات الجسدية وتعريض حياة الناس إلى الخطر. وما يثير القلق أكثر والتخوف هو غياب التكفل التام بهذه الفئة من الجهات المعنية وهو ما أدى بالمختصين والأطباء النفسانيين إلى دق ناقوس الخطر تفاديا لحدوث كوارث خاصة وأن حوادث كثيرة وقعت كان المختلون عقليا السبب فيها. وقد بلغت خطورة الاعتداءات الصادرة من هذه الفئة من المصابين بالأمراض العقلية في العديد من الحالات إلى وفاة أشخاص أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا في لحظة ما متواجدين أمام مختل عقليا. ففي شوارع العاصمة كثيرا ما يصادفنا ''مجنون'' أو أكثر نجده يثير الرعب والهلع في نفوس المارة الذين ليس بإمكانهم فعل شيء. وتزداد المخاوف كلما صدرت سلوكات من بعض من فقدوا السيطرة على تصرفاتهم، نظرا لما تشكله هذه الفئة من خطر على حياة العامة، خاصة وأن بعضهم عمد في حالات عديدة إلى حمل السكين وشهره في وجه المارة، والبعض الآخر قام بتصرفات مخلة بالآداب العامة ليلجأ المواطن أمام عجزه عن فعل أي شيء إلى تغيير اتجاهه والتخلص من الموقف المخجل. يهددون سلامة المواطنين في المحطات والشوارع وكثيرا ما تجد مثل هذه التصرفات في محطات الحافلات، الأسواق المحلية، أمام المحلات وحتى بساحة الجامعة المركزية، ففي مشهد غريب ومخيف بالعاصمة كان أحد المختلين عقليا يجوب شارع حسيبة بن بوعلي وهو يهرول في الطريق حاملا عمودا خشبيا ويصرخ بأعلى صوته ما جعل المارة يهربون ويغيرون الطريق. بينما في مشهد آخر تعرض أحد المواطنين وهو في الحافلة إلى حادثة لم تكن لتخطر على باله إذ قامت سيدة كانت تجلس في الجهة المقابلة له بعد أن حدقت بوجهه طويلا بإفراغ محتوى فمها من الكاوكاو في وجهه أمام مرأى الجميع الذين نصحوا المسكين بعدم فعل أي شيئ لأن العجوز مختلة عقليا آو مجنونة وأن المجنون طبعا رفع عنه القلم. وأخطر حالة تداولتها الصحف الوطنية قبل أشهر هي تلك التي راح ضحيتها طفل في سن السادسة بالعاصمة كان رفقة زملائه عند باب المدرسة بالعاصمة عندما اتجه نحوه مختل عقليا وضربه بواسطة أداة حادة على رأسه فأسقطه أرضا متسببا في وفاته. والملاحظ من جهة أخرى أن النساء هن أكثر ضحايا المختلين حيث يتعرضن للاعتداء في محطات الحافلات والشوارع العمومية وغيرها من الأماكن وهن لا يملكن لا القوة ولا الشجاعة للدفاع عن أنفسهن وكأن المختل يدرك ضعف المرأة ويخشى الرجل وحتى المرأة المختلة عقليا غالبا ما تختار فريستها من النساء. وفي حالة أخرى كانت امرأة مختلة عقليا تحوم حول المواطنين بإحدى محطات الحافلات بالعاصمة وهي تتحدث مع نفسها، ثم اتجهت نحو سيدة ووضعت يدها على رأسها وبدأت تحدثها بكلام غير مفهوم، ولم تحرك تلك السيدة ساكنا وبدت عليها علامات الرعب واصفر وجهها خوفا وكانت محظوظة عندما تركتها وذهبت. وتروي الآنسة ''أحلام'' تفاصيل ما حدث لها منذ مدة وجيزة قائلة ''في إحدى المرات كنت ذاهبة إلى العمل على الساعة الثامنة ومر بجانبي أحدهم وضربني بكفه بقوة فأصاب أذني شعرت بدوار وألم دام أسبوعا كاملا، فاتضح أنه مختل ولديه شهادة مرضية''. الآنسة ''آمال'' هي أيضا كانت ضحية لعنف المختلين، حيث روت لنا ما حدث لها داخل الحرم الجامعي بقولها ''كنت أمشي رفقة صديقاتي فإذا بشاب يأتي مسرعا وهو يشهر سكينا في وجهي فأصبت ببعض الجروح ونقلت إلى المستشفى حيث تلقيت الإسعافات الأولية وتمت خياطة الجرح الذي لم يكن خطيرا لحسن حظي، وبعد التحري عن الشاب اتضح أنه مختل عقليا وأنه حديث الخروج من مصحة الأمراض العقلية. الأطباء يؤكدون خطورتهم على الناس و على أنفسهم من جهتهم أجمع الأطباء لا سيما النفسانيون منهم على خطر هؤلاء الأشخاص على المجتمع واصفين إياهم بالخطر الحقيقي لا سيما عندما يتم إهمالهم وتركهم أحرارا يتجولون بين الناس في الحافلات، كما في القطارات وفي الساحات العمومية والمحطات الحافلات وحتى أمام المؤسسات التربوية والجامعات . وفي هذا السياق يؤكد ل''المساء'' أحد الأطباء على أن المختل مكانه إما في المستشفى أو المراكز المخصصة لذلك وإذا تعذر ذلك فلا بد أن يكون مرفوقا بأحد الأقارب عندما يكون خارج المنزل، فالذنب ليس ذنبهم وإنما المسؤولية تقع على عاتق أسرهم التي تتخلى عن أبنائها المرضى وتتركهم في الشارع يواجهون الجوع وقساوة الطبيعة في الشتاء والصيف بالإضافة إلى خطر السيارات الذي يداهمهم في الطرق العمومية لاسيما السريعة منها ويضيف محدثنا أن المريض عقليا لا يشكل خطرا على الناس فقط بل هو خطر كذلك حتى على نفسه إذ نجد البعض منهم يضرب نفسه وآخرين ينتحرون. ويؤكد الطبيب ''م. بلعمري'' أن الأسرة لا يمكن أن تتكفل بهذه الشريحة نظرا للمصاريف التي يتطلبها هؤلاء لشراء الدواء من جهة، وللعدوانية والتصرفات اللامسؤولة التي يواجهونها منهم من جهة أخرى، مشيرا إلى أن أحد المختلين قام بطعن أمه بسكين وآخر قام بربط والدته إلى كرسي وحاول شنقها، وقد نجت بفضل تدخل أحد الأقارب. وترجع هذه السلوكات إلى بعض النوبات التي تصيبهم فيتخيلون الناس وحوشا يريدون إلحاق الأذى بهم وهم لا يثقون بأحد إلا أصحاب المئزر الأبيض ''الأطباء'' لأنهم يظنون أن هؤلاء الوحيدون القادرون على فهمهم ومساعدتهم. ويوضح أحد الأطباء النفسانيين بمستشفى مصطفى باشا الجامعي نفسية المصاب بمرض عقلي بقوله إنه شخص لا يفرق بين ما هو في صالحه وما هو خطر عليه رغم أننا نلاحظ أحيانا بعض التصرفات الصادرة عن بعض المختلين والتي توحي بأن هذا الشخص عاقل ويدرك جيدا ما يفعل إلى درجة أنه يتهم في كثير من الحالات انه غير مختل ويتعمد القيام ببعض التصرفات، إلا أن الحقيقة هي أن المصاب بمرض عقلي هو شخص غير سوي ولا يفكر كما يفكر الأصحاء وبالتالي فهو يحتاج إلى تكفل خاص وعناية وعلاج بينما التخلي عنه وتركه لمصيره المجهول لا يساعده في الشفاء ويعرضه للمزيد من الاختلال والأخطار. أين مشروع إنشاء المزارع البيداغوجية العلاجية؟ رغم أن لا شيئ يظهر في الميدان في مجال التكفل بمئات الآلاف من هؤلاء الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية الذين أصبحت الشوارع مأواهم إلا أن إجراءات وتدابير هامة تم الإعلان عنها من طرف الجهات المعنية وعلى رأسها وزارة التضامن الوطني التي قررت إنشاء ما يعرف بالمزارع البيداغوجية أو العلاجية لفائدة الأشخاص المعاقين ذهنيا والمصابين بالأمراض العقلية وكانت أول خطوة لتجسيد هذا المشروع هي التوقيع قبل ثلاث سنوات على اتفاقية بين وزارتي التضامن والفلاحة خاصة بالتكفل بالأشخاص الكبار المعاقين ذهنيا تقضي بوضع وزارة الفلاحة أراضي تحت تصرفهم لتحويلها إلى مزارع نموذجية. وقد التزمت وزارة الفلاحة بالعمل مع قطاع التضامن لتمكين المعاقين على مستوى كل ولايات الوطن الاستفادة من هذه المزارع البيداغوجية وممارسة هواية البستنة والزراعة، وتأتي هذه الخطوة باقتراح من رئيس الجمهورية، الذي أمر بضرورة التكفل الفعلي بالأشخاص المعاقين الذين لم يجدوا سوى بعض الساحات العمومية ملجأ لهم. وفي هذا الاتجاه تعمل وزارة التضامن الوطني على مساعدة فئة الأشخاص المعاقين ذهنيا من خلال استكمال دور المركز الطبي البيداغوجي الذي تنتهي فيه دراسة الأطفال المعاقين في سن الثامنة عشرة حيث تستعد الوزارة لإنشاء مزارع البيداغوجية، وبما أن المركز يحوي ورشات في البستنة فإن مشروع وزارة التضامن الوطني يأتي مكملا لما يقوم به المركز في إطار تعليم الطفل المعاق أعمالا يدوية تساعده على إبراز قدراته الداخلية التي يجهلها الكثير من الناس. وتكتسي هذه المزارع التي لم تر النور بعد أهمية قصوى كونها تجنب المعاق ذهنيا مصير التشرد في الشوارع بعد بلوغه سن الرشد وهو السن الذي غادر فيه الآلاف من المرضى عقليا المراكز نحو الشارع لتزيد حالتهم سوءا ويتحولون إلى خطر. ورغم تسجيل أزيد من 24 ألف مختل عقليا متشردا وهو الرقم الذي أعلنت عنه وزارة التضامن الوطني خلال سنة 2009 إلا أن المختصين يتوقعون ارتفاع هذا الرقم وهذا لعدة عوامل أهمها تنامي حالات الإدمان بمختلف أنواعها والظروف الاجتماعية الصعبة. وكان من جهته المدير العام للديوان الوطني لمكافحة الإدمان خلال الملتقى الدولي الرابع للأمراض العقلية والطب الشرعي الذي انعقد مؤخرا بالمركز الاستشفائي الجامعي فرانتز فانون بالبليدة قد أكد أن تنامي الإدمان على المخدرات أصبح مؤشرا خطيرا حيث بات بوابة أكيدة إلى الإصابة بإعاقة عقلية، حيث دعا إلى ضرورة التدخل وتكوين أطباء متخصصين في مثل هذه الأمراض التي بدأ المجتمع الجزائري يشكو منها مع ضرورة إنشاء أيضا مراكز تكفل متخصصة عبر مناطق الوطن، علما أن الجزائر تملك 400 طبيب مختص فقط وتسجل نقصا فادحا في الأطباء النفسانيين الذي لا يتعدى عددهم ال1500 طبيب. ومن هنا يشدد المختصون على ضرورة الاهتمام بهذه الظاهرة التي باتت مشكلا وطنيا ولم يخفوا تخوفهم المستقبلي في حال عدم الإسراع بالتدخل للحد من ارتفاع نسبة المدمنين الذين سيتحولون ''جبرا'' إلى مختلين عقليا. كما جاء هذا التخوف كذلك على لسان وزير التضامن نفسه الذي أكد أن عدد المدمنين على المخدرات المسجل حاليا سيتحول إلى خطر يعرض أصحابه إلى الإصابة بأمراض عقلية في ظل المحيط الذي يعيشون فيه، وأنهم سيتحولون مع الظروف الاجتماعية غير المواتية إلى مدمنين وينتهي بهم المطاف إلى وضعهم في مراكز للمدمنين والمرضى عقليا.