التقبيل والعناق عند اللقاء، هي من مظاهر الحياة الاجتماعية في مجتمعنا وفي الوطن العربي بصفة عامة كونها من العادات المتوارثة، وبينما يكرس الجو العام السائد تأصل هذه العادة يدعو الأطباء إلى تجنبها، نظرا لخطورتها الشديدة في نقل عدوى بعض الأمراض، لاسيما منها تلك التي تصيب الجلد، والجهاز التنفسي، خصوصاً مع قرب دخول موسم الشتاء، لكن المشهد العام السائد يكشف أن السواد الأعظم يجهل هذه الحقيقة. التقبيل عند اللقاء عادة صحية سيئة.. لكن الحديث مع بعض عامة الناس بخصوص هذا الموضوع يظهر أن كثيرين يجهلون هذا الأمر، ما يطرح ضرورة توعية الناس للاكتفاء بإلقاء التحية كعادة للتواصل بين الأقارب والزملاء والأصدقاء، مع تجنب القبلات والعناق وحتى المصافحة بحسب أطباء علم المناعة الذين يقرون بأن الأمراض المعدية أكثر انتشارا في المجتمعات التي تمارس هذه العادة عند السلام. وفي هذا الصدد يقول الأطباء إن عادة التقبيل تضر أحياناً بالصحة، حيث أنها تنقل عدداً من الأمراض المعدية، بالإضافة إلى أمراض اللثة والشعب الهوائية وغيرها من الأمراض الجلدية، كالجرب والتهابات الجهاز التنفسي كالإنفلونزا التي تنتشر عدواها كثيرا في مواسم البرد. ويلفت الأطباء عادة الانتباه إلى أن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنتين أكثر عرضة للإصابة بالعدوى نظراً لعدم اكتمال الجهاز المناعي لديهم، ما يفرض الحاجة إلى إعادة نظر في هذا الموروث الاجتماعي، حيث يدعو الأطباء بموجب هذه المعطيات إلى التخلص من السلوكيات الخاطئة التي تجلب لنا الأمراض. وبهذا الخصوص رصدت ''المساء'' وجهات نظر متباينة بين رافض للتخلي عنها، ومؤيد لتطليق هذه العادة الاجتماعية، وآخرين يفضلون الوسطية من خلال ممارستها في المناسبات. وتبين من خلال الإجابات أنه بالرغم من أن البعض يفضلون الاكتفاء بالمصافحة، خشية أن تنتقل إليه بعض الأمراض المعدية، إضافة إلى عدم اقتناع آخرين بها تماما، إلا أنهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى ممارستها من باب اتقاء شر رد فعل الآخرين. السباحة عكس التيار صعبة بداية يقول السيد ''رمزي. ل'' موظف في مؤسسة عمومية: ''أنا واع بالخطورة التي قد تترتب عن هذه العادة الاجتماعية، لكن لا أستطيع منع من يبادرني بها خوفا من التأويلات السيئة التي قد تتبادر إلى الأذهان، لاسيما وأن السواد الأعظم يجهلون مدى خطورتها على الصحة.. فالأمر يتعلق بعرف اجتماعي يسري منذ القديم قياسا على مقولة: ''إذا حللت في قوم فاحلب في إنائهم''، ولذلك فإن مخالفة التقاليد تؤدي إلى الردع، مما يصعّب على الإنسان الواعي السير عكس التيار الاجتماعي السائد.. ويتابع: ''لكنني في قرارة نفسي أرحب بفكرة تهذيب هذه العادة الاجتماعية دفعا للضرر الصحي الذي قد ينجم عنها، خاصة وأنها لا تعكس بالضرورة المودة والتقدير بقدر ما تعبر عن مجرد ''بروتوكول''. ''يصعب رفض قبلات وعناق الأشخاص الذين يبادروننا بالسلام''.. هكذا ترى الآنسة ''جميلة''، خريجة معهد الإعلام والاتصال، من منطلق أن الخوف من إحراج الآخرين يقف حائلا بين ما يكتسبه المرء من وعي وبين ما يمارسه من أدوار في حياته اليومية. السيدة ''الهام''، مدرسة متخصصة في الترجمة، تكشف هي الأخرى بأن الوعي ليس ما ينقصها، إنما الجرأة على رفض هذا الأسلوب في إلقاء التحية والذي تجذر في سياق معاملاتنا اليومية بحكم التقاليد..'' ورغم ذلك تصرح إلهام: ''في الحقيقة لا تستهويني فكرة التخلي عن هذه العادة الاجتماعية رغم كوني مدركة لمخاطرها الصحية لأنها تحمل بين طياتها حرارة المشاعر وأي طريقة أخرى غيرها ستكون باردة بلا شك. فئة أخرى من الناس أقرت بأنها تجهل تماما خطر هذه العادة الاجتماعية من ضمنها الآنسة ''نبيلة'' طالبة في السنة الثانية تخصص الأدب العربي بالجامعة المركزية، وكذا صديقتها ''زينب'' مستوى السنة الثالثة جامعي تخصص علم القانون بجامعة بومرداس، حيث تعترفان: ''لسنا واعيتين بالأضرار الصحية التي قد تنجم عن هذه العادة، حيث نتجنب عادة الأشخاص المصابين بالإنفلونزا فقط. معانقة القلوب أفضل وفيما تقول الطالبة ''نبيلة'' بأنه يمكنها من الآن فصاعدا أن تمتنع عن إلقاء التحية عن طريق العناق والتقبيل وتوجيه ملاحظة التخلي عن هذه العادة لمن يبادرها بالسلام، تشير زميلتها ''أمينة'' (تدرس تخصص الأدب العربي) إلى أن رد فعل الغير يشكل عقبة كبيرة عي طريق الالتزام بالقواعد الصحية التي تقضي بتجنب هذه العادة. وفيما يبدو أن هدف الاكتفاء بمعانقة القلوب كبديل للقبلات والمصافحة التقليدية والعناق بين الأهل والأقارب والأصحاب أمر صعب المنال بالنسبة للبعض يقول المنطق لدى البعض الآخر ''السلام بالكلام خير من المعانقة والتقبيل''، ومن ضمن هؤلاء موظفة في محل لأدوات التقويم الطبي بشارع أودان بالعاصمة.. توضح: ''لا أجد أية صعوبة في منع الآخرين من تقبيلي، فهو أمر أرفضه جملة وتفصيلا''، لكن هل هذا الرفض ناجم عن الوعي الصحي؟ تجيب محدثتنا: ''لا صراحة ليس الأمر كذلك بل لأنني ببساطة مهووسة بالنظافة ولا أحب أن يقبلني أو يصافحني أحد'' كما ترى محدثتنا الموظفة في محل أدوات التقويم الطبي أن التحية بالكلام طريقة كافية لنقل رسائل السلام. ويبقى السؤال هل نحتاج إلى حملة مقاطعة التقبيل لتجنب التقبيل والمصافحات الحميمة خلال المناسبات أو سائر الأيام العادية والاكتفاء بإلقاء التحية؟ تقترح الطالبة ''أمينة'' على غرار العديد من محدثينا القيام بحملات تحسيسية لتوعية عامة الناس بالمخاطر الصحية التي قد تنجر عن ممارسة هذه الاجتماعية. وهو نفس الرأي الذي تتبناه محدثتنا ''جميلة'' التي ترى بأن التوعية في هذا المجال تحتاج إلى الاستمرارية على المدى الطويل، لأنه ليس من السهل التخلص من عادة تمثل جزءا من شبكة العلاقات الاجتماعية. واتفقت الآراء عموما على ضرورة تغيير العادات السيئة التي تنقل الضرر والأمراض، وأن نلتزم بالسلوكيات الراقية التي تجعلنا نحترم الآخرين ونحرص على عدم نقل أمراض لهم. وبالتالي التعاون على إشاعة ثقافة جديدة من أجل الحفاظ على صحة المجتمع انطلاقا من أن الصدق في المعاملة وصفاء القلوب هي العادات الإيجابية التي يجب أن تسود، لأن التقبيل أو المصافحة طرق لا تعبر عن الحب والشوق وحرارة القلوب في كل الأحوال، فالبعض رغم الكراهية التي يحملونها في قلوبهم للغير إلا أنهم يقبلونهم في إطار التعاملات اليومية مجاراة للعادة. التقبيل ليس مستحبا شرعا ومن وجهة نظر دينية أوضح الدكتور عمار الطالبي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورئيس تحرير أسبوعية ''البصائر'' ل ''المساء'' أن التقبيل ليس مستحبا شرعا، ونصح بتجنبه والاكتفاء بالمصافحة كما أمر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. وأضاف أن الأمر يتعلق بعادة اجتماعية متوارثة وليس بواجب كما يعتقد البعض من عامة الناس ممن يقبلون على ممارستها آليا في المناسبات وفي سائر الأيام العادية، مؤكدا على ضرورة الامتناع عن كل السلوكات التي تحمل الضرر أو احتمال إلحاق الضرر بالغير، في إشارة إلى الأيدي التي قد تكون فيها إصابات جلدية على غرار الجرب أو التي قد تكون مجروحة نظرا لاحتمال نقل الفيروسات مثل فيروس التهاب الكبد الفيروسي أو فيروس نقص المناعة المكتسبة (السيدا). ومن المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه أنس قال: ''قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أفيأخذه بيده ويصافحه؟ قال: نعم''، وعن أنس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ''ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقا على الله عز وجل أن يحضر دعاءهما، ولا يفرق بين أيديهما حتى يغفر لهما''، وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ''ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا''، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ''إن المسلم إذا صافح أخاه تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر''، وقوله ''تصافحوا فإن التصافح يذهب السخيمة''، وقوله أيضا ''تصافحوا يذهب عنكم الغل، وتهادوا تحابوا''، وكل هذه الأحاديث تأمر بالمصافحة وتحث عليها، وتضمن الأجر والمغفرة لفاعلها، ولم ترد خلالها أية إشارة لأية وسيلة أخرى للسلام.