لعبت المرأة في الريف دورا أساسيا لإنجاح ثورة نوفمبر، بل انها كانت وبشهادة إخوانها المجاهدين رافدا هاما ودعامة لم يكن ممكنا أن تنجح الثورة بدونها...فهي ''الرجل الثانية'' التي كان لابد من وجودها للوقوف بتوازن وبالتالي تحقيق النصر المنتظر...لكن يعترف الكثيرون ان هناك تهميشا لنساء الريف المجاهدات. وسعيا منا لتسليط الضوء على جزء من تفاصيل مشاركة هذه الفئة في الثورة التقينا المجاهدة ''خديجة بلقمبور'' المدعوة ''فريدة'' التي حدثتنا عن بعض ماعايشته من ويلات الاستعمار منذ طفولتها، والمهام التي أوكلت لنساء منطقتها باختلافهن في دعم الثورة، في وقت أصبحت فيه ''البنت'' هدفا للجنود في أي هجوم للجيش الفرنسي وهو ماكان يقض مضجع رجال العائلة. بالابتسامة والترحاب استقبلتنا المجاهدة فريدة بلقمبور ببيتها في العاصمة، لتروي لنا فصولا من معاناة عاشتها منذ طفولتها، ومازالت تتذكر كل تفاصيلها بأسى وحسرة كبيرين مختلطين بافتخار ورضى عن كل ماقدمته هي واخواتها المجاهدات في جبال الناحية الثانية بالشرق الجزائري. ومن الصعب فعلا العودة بالذاكرة الى تلك الاحداث القاسية ومن الصعب ذكر كل التفاصيل، لاسيما اذا كان الامر يتعلق بطفلة مدللة لم تعرف يوما الحرمان والحاجة لأنها عاشت في ''منطقة محررة'' لااثر فيها لأي ''كولون''... ''فالفرنسيان الوحيدان بالمنطقة كانا رجلا يحرس الغابة وزوجته أستاذة اللغة الفرنسية''... كما ان عائلتها الكبيرة كانت لها املاك وتجارة بجيجل وميلة والعاصمة مكنتها من عيش ''طفولة سعيدة''. المجاهدون ..من غرباء إلى ''ملائكة'' ولدت السيدة فريدة في دوار بني يفتح ببلدية بلهادف- حاليا بلدية بوراوي- في دائرة العنصر بولاية جيجل... وانقلبت حياتها من النقيض الى النقيض...بداية من سنة .1955 تتذكر السيدة فريدة ذلك فتقول ''في يوم من الايام ظهر اناس غرباء في منطقتنا بعضهم جاؤوا مع عائلاتهم الهاربة من مناطق مجاورة ليستقروا عندنا...كان عمري حينها 12 سنة... ثم بدأ الجيش الفرنسي في انجاز ثكنات ومراكز اعتقال هامة جدا، كما قام بشق الطرق في هذه المناطق الجبلية.. واحتضنت بلديتا المحارقة والصمعة الواقعتان بين بني يفتح وبني عيشة مراكز اعتقال مشهورة...بدأوا بأخذ أحسن رجال المنطقة الذين اختطفوا من طرف فرقة الأيدي الحمراء''. لكن من تسميهم الطفلة فريدة ''غرباء''، تطلق عليهم امها اسما آخر يدل على سعي الاسرة الجزائرية لترسيخ حب المجاهدين في قلب الاطفال، حيث تروي محدثتنا ''في احد الايام التقيت بأربعة رجال مسلحين فصرخت وهربت اجري للبيت...فلما رأتني أمي في تلك الحال سألتني عن سبب خوفي، فقلت اني رأيت رجالا غرباء يحملون أسلحة، فما كان من والدتي الا تهدئتي وهي تقول لي يابنيتي هؤلاء ليسوا رجالا انهم ملائكة''. وهكذا كبرت الطفلة فريدة على فكرة ''ملائكية'' المجاهدين التي تأكدت منها بعد سنوات عندما عايشت يومياتهم واصبحت واحدة منهم ورأت بأم عينها سلوكهم النموذجي، كما كبرت على أناشيد كانت تبدأ بها ''المرشدات'' خطاباتهن على نساء الدوار...هؤلاء نساء من خارج المنطقة جئن خصيصا لإفهام النساء معنى ثورة التحرير، واسباب تواجد المجاهدين، وكل التغيرات الحاصلة في المنطقة بما فيها التواجد المكثف لقوات جيش الاستعمار الفرنسي. ومن بين الاناشيد التي تتذكرها المجاهدة فريدة بلقمبور ''حيوا الشمال ''و''اللي تحب لافريك دونور'' الذي كتبت كلماته السيدة دلولة بوشامة ابنة قسنطينة ...ونشيد آخر تتذكر بعض مقاطعه ''درابونا (علمنا) نجمة وهلال وجندنا نسا ورجال والا ماكفاش الحال نزيدو معاهم الدرية''...تقول السيدة فريدة عن دور هؤلاء المرشدات ''كانوا يلقون علينا الاناشيد ثم يفهموننا لماذا هناك اناس ''برانية'' ولماذا تقصف الطائرات قريتنا، ولماذا يخطف الجيش الفرنسي الناس...حتى نقبل الغرباء لأنهم اخوتنا في الحقيقة وليسوا غرباء''. وبالفعل لبى سكان المنطقة نداء الجهاد بطريقتهم ...تتذكر محدثتنا ذلك فتروي ''بدأنا اولا بقتل الكلاب حتى لاتنبح عليهم...وكان لدينا كلاب كثيرة تحرس المنطقة...فهي بمثابة سلاحنا لأننا كنا في منطقة محررة...وشيئا فشيئا بدأ الأكل والمؤونة تنقص لأننا كنا نتقاسم كل مالدينا مع المجاهدين وعائلاتهم الهاربة من بطش الاستعمار''. وهنا يظهر دور آخر كانت تقوم به النساء في الريف لدعم ثورة التحرير الوطنية، حيث تم تعيين امرأة لتكون مسؤولة عن التموين او الامور اللوجستيكية على مستوى القرية تحت إمرة مسؤول الدوار الطاهر بودركة الذي كان رأس التنظيم وعمل مع لخضر بن طوبال. وكذا مسؤول الدشرة ومسؤول الدائرة. وربما قلة الميزانية جعلت المجاهدين يتركون أمر التموين لامرأة. وكان عملها يتمثل في جلب التموين من السكان كل حسب قدرته، لتحضير الاكل استعدادا لحضور المجاهدين''. واول مرة رأت فيها الطفلة فريدة طائرة كان في 1955 ...وهي طائرة فرنسية اسقطها المجاهدون في منطقة بلارة التي كانت تطل عليها القرية الموجودة على علو 820 مترا''. قيل في الصباح ان المجاهدين اسقطوا طائرة...لااتذكر التاريخ المحدد لأنني كنت صغيرة جدا، حتى العلم لم أشاهده ولكن كنت اعلم ان به نجمة وهلال...لاتنسي ان الجيش لم يكن يعيش وسطنا....في البداية كانت هناك مراكز للمجاهدين ولكن الجيش الفرنسي استهدفها مما أدى الى استشهاد الكثيرين مرة واحدة، اعتقد انه لهذا السبب تقرر منذ 1956 توزيع مراكز تواجد المجاهدين لتجنب الخسائر في الأرواح''. المنطقة المحررة تتحول إلى منطقة محرمة تذكر محدثتنا احد أهم مجاهدي المنطقة وهو بوالقرعة محمد الذي كان مسؤولا عن تموين المنطقة والذي كان السكان يولونه ثقة كبيرة... ولم يعد المجاهدون ''الملائكة'' مصدر خوف لديها... تقول ''لم نعد نختبئ منهم...وأتذكر أنهم أقاموا مركز تدريب على السلاح في منطقة تسيرة، وكنا نمر عليهم عندما نذهب لحقول الزيتون...سمعنا عن عدة أسماء لمجاهدين من بينهم المجاهد الكبير بن طوبال الذي كنت اعتقد وانا اسمعهم يتحدثون عنه انه رجل طويل القامة قوي البنية...ولما رأيته دهشت، ولكن فعلا كان رجلا جد ظريف...وعندما هم الحراس بطردنا ونحن نقترب من المكان انا واصدقائي، منعهم من ذلك وقال لهم ''لاتفعلوا ذلك فهؤلاء هم حملة المشعل''...لم افهم حينها معنى ماقاله...ولكن بقيت تلك الكلمة راسخة في ذهني''. ابتداء من 1956 بدأ الانقلاب الحقيقي في المنطقة التي تحولت الى ''منطقة محرمة'' ومعنى ذلك ان كل شيء متاح فيها ومباح...''اصبحت الطائرات تأتي في أي وقت لتقنبل في كل الاتجاهات وتقتل السكان بدون أي تخطيط او هدف محدد، وقتل اصدقاء الطفولة امام عيني كما قتل عدة افراد من عائلتي منهم عمة والدي التي قتلت امامنا ببرودة .اصبحنا نختبئ في النهار ونخرج في الليل ...فالجيش الفرنسي اراد نقلنا الى مراكز الاعتقال كما فعل مع سكان مداشر اخرى، لكننا لم نرد ذلك فقرروا هدم البيوت حتى يقطعوا التموين عن المجاهدين...كنا نعلم ما يحدث في تلك المراكز لاسيما للنساء لذا كان ضروريا الا يقبض علينا تحت أي ظرف''. لم تنس المجاهدة فريدة الى اليوم ذلك التمشيط الذي دام 15 يوما في بداية سنة 1957 عقب اضراب الستة ايام لأن الجيش الفرنسي لم يترك شيئا الا واستهدفه..لاشجر ولاحيوانات ولاعجائز ولاشيوخ ولااطفال...بل استخدم ضدهم النابالم...تقول ''كنت طفلة ولكن لم انس ابدا كنا في منطقة جبلية وكان أطول يوم في حياتي رأيت أمواتا في كل مكان لدرجة انه لم يكن هناك من يدفن الضحايا...كما ان المنطقة خطيرة جدا كنا نبيت في الكهوف والصخور معرضين لخطر الحيوانات البرية كالخنزير والثعابين''. نسألها كيف عاشت هذا الوضع وهي طفلة؟ فتجيب''لم أكن أفكر لأنني صغيرة ولكن كنت تعيسة...لقد انقلبت حياتي رأسا على عقب...من طفلة مدللة في بيتها وسط عائلتها الكبيرة..الى طفلة هاربة خائفة تنام في الكهوف والحفر وتأكل الحشيش. بكيت كثيرا على منزل جدي لما رأيتهم يدمروه...كنت أحس انني أعيش كابوسا لانهاية له..بالمقابل وفي أيام التمشيط تلك عرفت من هم المجاهدين لأننا كنا معهم...المجاهدون هم من اعطانا الاكل عندما لم يبق لدينا شيء نأكله''. ومع اصرار الجيش الفرنسي على اخذ السكان الى مراكز الاعتقال، والوحشية التي اصبح يتعامل بها معهم بسبب رفضهم ذلك، نصح المجاهدون اهالي المنطقة بتركها...فكان الرحيل الى ميلة، ثم بداية النضال بالنسبة لفريدة التي بدأت تجتاز طفولتها وتتخلى عن براءتها التي شوهتها وحشية الاستعمار بكل مظاهرها، فأينما حلت لم تعش سوى القهر والممارسات القمعية من مراقبة يومية وهجوم يومي على البيوت من طرف قوات الاستعمار...ومازاد الطين بلة انها اصبحت فتاة في ال14 من العمر تجلب ''انتباه'' الجنود الفرنسيين...فتنفس والدها الصعداء عندما التحقت بالنضال لأن وجود بنت في البيت ''مصيبة''. أولى المهام...والرغبة في الانتقام كانت أولى مهامها حمل الرسائل التي كانت تخاط في فساتينها...ثم تعلمت التمريض بوسائل بدائية في ظل النقص الفادح في الأدوية والتجهيزات...وتؤكد هنا ان التجنيد لايتم عبثا والدليل انه عند التحاقها بالعمل النضالي قدمت لها ورقة بها كل المعلومات التي تخصها....تعترف محدثتنا ان الأمور لم تكن سهلة كما قد يعتقد البعض...بل كانت جد صعبة لدرجة ان الكثير من المجاهدات لم يتحملن الوضع لولا دعم المجاهدين لاسيما المسؤولين الذين كانوا يلجؤون للحيلة احيانا حتى يصبروا اخواتهم ويعينونهن على البلاء...ومن بين هذه الحيل اختراع رسائل وهمية من الأهل لتخفيف الضغط عليهن. وتعترف المجاهدة فريدة بلقمبور ان نضالها جاء نتيجة رغبة قوية ل''الانتقام'' وليس بدافع الروح الوطنية كما قد يعتقد البعض لسبب بسيط وهو انها كانت صغيرة ولاتعرف معنى الوطنية اساسا...فوحشية جيش فرنسا هي التي ولدت الطاقة النضالية في حقيقة الأمر. تقول ''عندما ترين اقرب الناس إليك محروقين بالنابالم... وتدركين انها حرب بدون رحمة..لاقانون يحكمها ...تقتنعين أنه عليك ان تصبحي قوية وسريعة البديهة لأنها مسألة حياة او موت...وبالنسبة للنساء الأمور أسوا فلايجب ابدا ان تقعي في ايديهم...عندما اسمع ماترويه اخواتي المجاهدات المعتقلات...لااتحمل. رأيت بأم عيني في منطقة بني عافر طفلات قتلن وهن يرعين الاغنام...الى حد الآن لم أتجاوز الامر..اعتقدت انه مع العمر والاستقلال يذهب احساس الانتقام لكن لم يحدث ذلك، الحمد لله انا متوازنة نفسيا مقارنة بأخريات''. وعن دور المرأة الريفية عموما تقول أنها لعبت كل الأدوار''مراقبة، تحضير الأكل، نقل الرسائل، وحتى تعرية الموتى من الجنود الفرنسيين''! تتذكر هاهنا محاضرة للمجاهد بن طوبال عن دور المرأة قال فيها ان البعض عارضوا مشاركتها، لكنه وآخرين اعتبروا مشاركتها ضرورية وبالفعل كانت المرأة كانت مصدرا هاما للمعلومات''... وتتذكر في السياق امرأة بكماء كانت تراقب تحركات الجيش الفرنسي لمساعدة الثوار وتستخدم الأقمشة كلغة تحاور معهم''. وتؤكد ان المرأة كانت محترمة ومقدرة ''لااعرف مجاهدا لايعترف بدور المرأة الى يومنا هذا.. رأيت ضباطا ينهضون لتحية المجاهدة....''. دعوة النواب لإصدار قانون يجرم الاستعمار تتأسف المجاهدة لأن ''اليوم تغيرت النظرة للمرأة''... كما تتأسف من جانب آخر لأن المرأة بعد الاستقلال ''تغيرت'' وتشرح ذلك بالقول''لقد نسيت المرأة اليوم دورها الأول وهو تربية النشء...كما أن الكثيرات نسين هويتهن...وكأنهن يخجلن من أنفسهن...وهو ما يظهر مثلا في الأعراس حين تفضل البعض ارتداء أزياء غير جزائرية...هذا غير طبيعي''. وتضيف ''لايجب ان ننسى جذورنا... جميل ان ننظر الى الامام لكن لايجب ان ننسى تاريخنا...حقائق كثيرة لم تظهر...وانا امرض عندما اسمع تصريحات مهينة لكوشنير دون رد من أي جهة... وآسفة لأن لا أحد من الضباط الفرنسيين الذين عذبوا وقتلوا وحرقوا تمت محاكمتهم... اطالب البرلمانيين الجزائريين باصدار قانون لتجريم الاستعمار...لانحب ان نشك بما فعلناه... هل كل ماعانيناه ذهب ادراج الرياح؟ هذا لايمكنني قبوله ...لحد الآن منازلنا مهدمة...لانعرف حتى عدد الضحايا المدنيين الذين قتلوا بالنابالم...كما ان 99 بالمائة من الذين ماتوا كانوا شبابا وبالتالي لم يخلفوا وراءهم اولادا...انا لااطالب بالتعويض المادي ولكن بمحاكمة المجرمين رغم ان التعويض حق...يجب اصدار قانون حتى يعترفوا بجرائمهم''.