لم يركن صاحب جائزة نوبل للآداب يوما إلى الهدنة، بل ظل ثائرا شاهرا قلمه في وجه الاستبداد واحتكار الحرية التي هي حق لكل بني البشر، وبالمقابل ناضل سراماغو من أجل تخليص الفكر والسياسة من شوائب التخلف والأسطورة معتمدا بشكل أساسي على المنهج التاريخي الفلسفي. ضمن فعاليات الطبعة ال15للصالون الدولي للكتاب، نظم أول أمس الدكتور كادوترايش عميد كلية الآداب بجامعة لشبونة بالبرتغال لقاء فكريا تكريميا للمفكر الراحل خوزي ساراماغو. بداية نشطت البرتغالية ليديا لباش الجلسة بإعطاء بعض التفاصيل عن هذا المفكر الرمز المولود سنة 1922 بجنوب البرتغال والذي توفي في جوان 2010 عن عمر يناهز ال88 تقريبا (عيد ميلاده كان سيكون أمس السبت). وهو البرتغالي الوحيد المتحصل على جائزة نوبل للآداب عرف بغزارة إبداعه وبكتبه التي انتشرت في العالم، واتخذ من نضاله السياسي وسيلة لنشر أفكاره المتحررة لذلك انضم الى الحزب الشيوعي ابتداء من سنة ,1969 ووقف ساراماغو ضد كل ما يشوب الديانات خاصة الكاثوليكية محاولا اعطاء مجال للتنوير الفكري المبدع. عاش ساراماغو في السنوات الأخيرة من حياته في اسبانيا، مما ساهم أكثر في شهرته عبر أوروبا والعالم، وكانت له مساهمات مهمة في بناء الاتحاد الأوروبي الذي أصبح فيما بعد عضوا في برلمانه. اشتهر هذا المفكر أيضا بمواقفه الواضحة والشجاعة تجاه القضايا العادلة في العالم كالقضية الفلسطينية ومسألة الصحراء الغربية، لذلك فقد ظهر في الكثير من الأحيان إلى جانب المناضلة الصحراوية أميناتو حيدر. هذا المناضل الذي عاش طفولة فقيرة استطاع أن يطرح بقوة مطالب الفقراء وينادي حتى النهاية بضرورة تطبيق العدالة الاجتماعية. انطلاقته الأدبية كانت سنة 1947 من خلال روايته الأولى ''أرض الذنوب''. الدكتور كادو ترايش العضو بمؤسسة خوري ساراماغو وصديق الراحل تحدث أكثر عن كتاباته المحتفى بها التي نشرت في العالم، وأشار إلى أن ساراماغو مزج في كتاباته بين الخيال والتاريخ وجعل منهما وسائل أولية في انتاجه الابداعي ولعل أشهر هذا الابداع روايته الشهيرة ''الإله مونشو'' التي تحمل الكثير من القيم والانطباعات والتي صدرت له عام ,1982 حيث يرى ساراماغو أنه لابد من استحضار الذاكرة في الكتابة حتى لا تكون القراءة ساذجة. وتوقف المحاضر مطولا عند رواية ''الاله مونشو'' التي تعتبر منعرجا مهما في الأدب البرتغالي الحديث كما أنها تؤسس لقيم سياسية واجتماعية معينة وتعرض بعض التغيرات المتسارعة التي عرفتها البرتغال منها نهاية الديكتاتورية والانتعاش الاقتصادي إلى جانب استعراض تاريخ هذا البلد الذي كان امبراطورية استعمارية هائلة ضاعت مع القرن ال19م. من الفترة 1992 1995 بدأ ساراماغو يؤرخ للبرتغال من خلال كتب طبعت بمئات الآلاف من النسخ موجها القارئ البرتغالي والأوربي الى عالم آخر من القراءة غير المألوفة. ولعل من أشهر كتب الراحل المطبوعة ''النهوض من الأرض''، ''عام الموت'' و''تاريخ حصار لشبونة'' وقد ناقش المؤلف في بعضها واقع انفتاح البرتغال على الاقتصاد الأوربي وأي ثمن دفعته لأجل ذلك، كما فتح حوارا جدليا مع أوروبا في كل النواحي وانعكاس ذلك على بلاده وعلى بلدان أخرى من العالم. لقد استطاع هذا الأديب الفيلسوف أن يثير أفكارا انسانية واجتماعية مستمدة من الواقع، وهي نفس القدرة التي وظفها في رواياته ومسرحياته التي طبعتها حركية التاريخ لذلك نجد أنه ألف سنة 1990 كتاب ''تاريخ وخيال'' معتبرا فيه أن التاريخ هو ميدان إبداعه. ويقول في أحد المقاطع ''على من يختار سُبل التاريخ للكتابة أن يعرض مطبات التاريخ ويوضحها ويوظفها ابداعيا بدوره القارىء سيسبح في هذه الأفكار بأسلوب خيالي شيق''، ويضيف ''لا يمكن مراجعة التاريخ أو كتابته لأنه سيفقد مصداقيته وأحداثه وبالتالي سيصبح عبارة عن زمن حاضر''. هكذا هو ساراماغو الرجل اليساري الوفي لمبادئه الانسانية السامية الموظف لقضايا العدل والمساواة في كل ما يبدعه والفخور بجذوره الانسانية كما صور ذلك في روايته ''الآخر مثلي''. ظل هذا الرجل مدافعا عن الحق الذي وصفه بالخيار بين الحق وأمه، ليختار دوما الحق مهما كلفه ذلك من ثمن فوقف في وجه ديكتاتورية سالتزار ودفع الثمن ووقف مع حركات التحرر فكان المثقف العالمي الوحيد الذي اعتنق القضية الفلسطينية وكان لسان حال نضالات أمريكا اللاتينية وإفريقيا ولم يركز أبدا على الشهرة بل جعل من انتشاره أداة أخرى للنبش في قضايا الشعوب والإنسان. كل حياته كانت هكذا، ليعد بذلك من المثقفين القلائل الذين قادوا هجوما شرسا ضد القيم المضادة التي وضعت المقاييس الدولية (مقاييس ظالمة)، والذين عرفوا كيف يلتقطون ويترجمون آهات البشرية المعذبة التي لا يسمعها الكبار والأقوياء. ساراماغو الذي أحسن تصوير المشاعر والأفكار والأحاسيس البشرية بعمق، صنع لنفسه مكانة ثابتة في الأدب الانساني المشترك بين تلك الشعوب والثقافات. تسلم نوبل بتواضع وهو يرافع عن هذه القيم المشتركة التي دحرتها آلة الهيمنة العالمية وجعلت منها عملة غير قابلة للصرف.