رغم أن العمل التطوعي من أعراف المجتمع وواحد من أبرز القيم التي يحث عليها الدين الإسلامي، إلا أنه لم يرق حتى الآن إلى أن يكون ثقافة مجتمعية عامة، حيث ما يزال محصورا في نطاق محدود ومرتبطا في غالب الأحوال بالمناسبات، مما يطرح انشغالا حول أسباب انحسار ثقافة العمل التطوعي وسبل تدعيمها لتكوين شخصيات اجتماعية منتجة... يحتفل العالم سنويا في الخامس من ديسمبر باليوم العالمي للتطوع، وهو اليوم الذي اعتمد من قبل الأممالمتحدة، تكريما للعمل التطوعي ودعما لدوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن الجدير ذكره أن فكرة اليوم العالمي للتطوع، جاءت لتحفيز سياسات الأعمال التطوعية وتوسيع شبكاتها، للوصول إلى الأهداف التنموية للألفية الجديدة، وتتلخص تلك الأهداف في التغلب على مشاكل الفقر، الجوع، الأمراض، الأمية، والمحافظة على البيئة. ويسجل أنه في البداية كان العمل التطوعي محصوراً في تقديم المساعدات، لكن مع توسع احتياجات البشرية توسعت بالتالي قاعدة الخدمات التطوعية، فكما ترتبط ارتباطا وثيقا باحتياجات المجتمع الطارئة في الغالب، مثل الأزمات أو الكوارث، ترتبط أيضا باحتياجات المجتمع الجديدة التي برزت في ظل التطورات التي يعرفها العالم في مختلف المجالات على غرار الثورة الطبية التي أوجدت الحاجة للتبرع بالأعضاء البشرية لفائدة المرضى. ويبدو من خلال مجريات الحياة اليومية في مجتمعنا، أن بعض شباب اليوم يجد حرجا في ممارسة العمل التطوعي، فباستثناء العمل الخيري المعروف كالصدقة ودور بعض الجمعيات التي تأسست بناء على تجارب خاصة، لا نلمس كثيرا مبادرات التطوع بدءا بالتشجير في الأحياء أو تنظيف هذه الأخيرة، مساعدة المرضى في المستشفيات وانتهاء بالتبرع بالدم والأعضاء البشرية، مما يشير إلى أن المجتمع لم يصل بعد إلى تقدير دور العمل التطوعي. والواقع أن كل المجتمعات بحاجة ماسة إلى أن تكون ثقافة التطوع فيها أوسع انتشارا، لكن توسيعها لا يمكن أن يعتمد على بعض المبادرات الفردية التي تقوم هنا وهناك، لأن الأمر يحتاج إلى تكامل في هذه العملية بين المدرسة والبيت والمسجد والبيئة العامة، لتوفير بيئة جيدة لهذا العمل الإنساني الذي يدل على وعي المجتمع، كما يرى بعض الذين تحدثت معهم ''المساء'' حول الموضوع... استثمار الوقت فقليلا ما نرى مجموعة من الشباب ينظفون الشاطئ أو الحي الذي يقطنون فيه أو حديقة المنزل، وبالمقابل كثيرا ما نصادف مشهد شباب يتسكعون في الشوارع والأسواق تمضية للوقت، فيعيشون حياة غير ذات قيمة.. ومن بين مئات الشباب الذين يشتكون من الفراغ، هناك بالمقابل من يفكر بمنطق أن وقت الفراغ نعمة لا يجب أن يذهب هباء منثورا.. هذا هو المنطق التي تعتنقه طالبة شابة تدرس بجامعة بوزريعة تعمل كمتطوعة في المسجد، تصرح: ''بوصفي طالبة عازبة ليست لديها ارتباطات كثيرة، أفضل أن أقضي وقت الفراغ في أعمال تعود بالنفع على الآخرين.. وقد وجدت ضالتي من خلال الانشغال بتنظيف وتنظيم أمور المسجد كلما سمح وقت الفراغ بذلك''. وعن الدافع المحفز لإقبالها على العمل التطوعي بمسجد الجامعة، تقول محدثتنا الطالبة : '' تعلمت ثقافة استثمار الوقت من محيطي العائلي واقتنعت بها كونها من أهم التعاليم التي يحث عليها ديننا الحنيف، فالمؤمن يحاسب على كل دقيقة تمر من عمره، لهذا كان من الأجدر أن ننفق الوقت في أعمال الخير. وتفسر الطالبة المتطوعة انحسار مبادرات العمل التطوعي في وسط الشباب. بروح الاتكالية التي يكتسبها الكثيرون من المحيط الأسري، حيث لا تسمح العديد من أمهات اليوم لأبنائهن بالمشاركة في الأشغال المنزلية بحجة ضرورة تفرغهم للواجبات المدرسية، مما يكبح طاقات العطاء الكامنة لديهم. الحياة مشروع جنة ومن ضمن بعض الشباب الذي يمارس العمل التطوعي أيضا، كان لنا حديث مع الآنسة ''رحمة. م'' (مخرجة)، تقول : '' كان والدي قدوتي الأولى في العمل التطوعي، ولاحقا اكتشفت أن صديقتي تقوم بالعمل التطوعي سرا، مما شحذ طاقتي أكثر لممارسته، حيث صرت أتولى رفقتها الاهتمام ببعض المريضات في أحد مستشفيات العاصمة والسعي لرسم البسمة على وجوههن من خلال غسل شعرهن وتسريحه والتبرع لهن ببعض الملابس.. كما كنا نتطوع لتنظيف المراحيض بالمستشفى، لكن للأسف بعض العاملات بالمستشفى وجدن في هذه المبادرة ورقة للابتزاز، إذ صرن يطلبن منا المقابل لتمكيننا من الدخول، ما جعلنا ننقطع عن العمل التطوعي في المستشفى''. سألناها عن أثر هذا الأمر على معنوياتها فأجابت : '' صحيح أننا نلاقي أحيانا بعض العوائق، غير أن هذا لم يقتل روح التطوع لدي، فمجالات التطوع كثيرة وواسعة، ولا تتطلب في بعض الحالات ولو فلسا واحد، إنما الرغبة فقط في مساعدة الغير، كأن يقوم الواحد منا بتوجيه موظف جديد واطلاعه على طرق العمل... لكن للأسف لا يجد نداء التطوع صدى كبيرا لدى الكثير من الشباب ممن لا يهمهم سوى إشباع حاجياتهم المختلفة دون الالتفات إلى الغير وإلى المحيط عامة.. في حين أن البعض الآخر تصرفه ضغوطات الحياة اليومية عن التفكير في العمل التطوعي، إلا أني أعتقد أنه لا ينبغي لأي أحد منا أن يغفل عن حقيقة أن الدنيا مشروع جنة مهما كانت الأحوال''. ولا تعتقد ''رحمة. م'' أن ثقافة العمل التطوعي غائبة في مجتمعنا، بل مشكلتها أنها محصورة في بعض الجهات الدينية والجمعيات الخيرية، ومرتبطة بالمناسبات على غرار شهر رمضان، فلو فكر كل واحد منا في الأمر بجدية، لوجد أنه قادر على إيجاد مجالات متعددة للعمل التطوعي تكون مفيدة للمجتمع''.
انعدام الثقة وبرأي الإعلامي ''عامر. ك''، فإن من أسباب عدم إقبال الشباب بصفة خاصة على العمل التطوعي، انعدام الثقة بين المواطن وبعض الجهات المسؤولة.. فالإنسان لا يفكر عادة في محيطه إلا عندما يكون قد أتى على نسبة كبيرة من مشاكله الخاصة، ففي ذلك الوقت فقط يمكنه أن يعطي أهمية للمشاكل العامة والمحيط العام. ويتابع : '' الظاهرة لها علاقة بالظروف المعيشية الصعبة، لا سيما وأن العديد من المواطنين أصبحت تسود لديهم ذهنية '' تخطي راسي''، ما أدى إلى غياب سنة حميدة وعرف من أعراف المجتمع الجزائري، إذ لا يظهر إلا في بعض الأحيان على غرار المبادرات الجماعية التي كانت تعرف ب''التويزة'' أو التآزر الاجتماعي عند وفاة أحد الجيران أو عند تشييد منزل أو القيام بعملية الحصاد أو البذر. وربما يعود انحسار العمل التطوعي وارتباطه بحالات معينة على صعيد آخر، إلى الإيديولوجيات أو التجارب السابقة التي فشلت مثلما كان يسمى بالثورة الزراعية، حيث كانت أفواج من الطلبة تقصد في أوقات العطل الأرياف والقرى والجبال لتساعد الفلاحين، لكن بفشل الثورة الزراعية تراجعت مثل هذه المبادرات التطوعية، بل وأصبحت عبارة عن نكتة يتندر بها القائم بهذه الأعمال سنوات السبعينيات''.
غياب الأطر المحفزة أما أستاذ علم الاجتماع طوبال فيقول : '' غياب ثقافة التطوع مرتبط أساسا بغياب ثقافة التضامن في المجتمع الجزائري.. وهذا الغياب لديه أسبابه، ومن ضمنها غياب الأطر الاجتماعية التي تحفز الأفراد على الانخراط في الأعمال التطوعية، فعلى سبيل المثال ليست هناك فضاءات اجتماعية يتعلم من خلالها الطفل أو الشاب ثقافة التضامن، لا سيما وأن مؤسسات التنشئة الاجتماعية وعلى رأسها العائلة والمدرسة لم تعد تساهم في غرس مثل هذه السلوكات في شخصية الأفراد.س ويوضح الأستاذ طوبال أن الجانب الاقتصادي له دور في حصر المبادرات التطوعية في بعض المجالات، ذلك أن ثقافة الاقتصاد الحر تجعل الأفراد ميالين للفردانية أكثر ومتجهين نحو ممارسة السلوكات التي لها أثر مادي. ويرى أستاذ علم الاجتماع أنه إذا أردنا أن تكون ثقافة التطوع ثقافة عامة، علينا الاهتمام بالتوعية الإعلامية وتفعيل المشاركة بين الشباب من خلال القطاع التعليمي وتعزيز الوازع الديني، وكذا دور الأسرة والجمعيات، حيث أن ضعف دور المجتمع المدني الذي لم يعد يساهم بشكل إيجابي في إرساء مجموعة التقاليد الاجتماعية، منها التطوع، جعل هذا الأخير مرتبطا ببعض المناسبات الرسمية. ويضيف المصدر أن هذا الأمر يعد مؤشرا سلبيا على تفكك المجتمع الذي لم تعد تغرس فيه قيم التضحية بالجهد والوقت بسبب طغيان المنطق الرأسمالي الذي يجعل النظرة إلى الحياة مادية. ومن ناحية أخرى، يعتبر الأستاذ طوبال أن قلة مبادرات التطوع ومحدوديتها في المجتمع الجزائري، تشير إلى غياب الوعي بإيجابية وفاعلية تحقيق الانسجام والتكامل الاجتماعي، وفي نفس الوقت تعبر عن سيادة روح الاتكالية على الدولة والأطراف الأخرى، ما حال دون تهيكل أفراد المجتمع لتنمية روح التطوع.
فساد الذهنيات وحسب أستاذ جامعي بمعهد علم النفس بجامعة الجزائر، فإن هناك جانبين في الموضوع، الأول نفسي والثاني اجتماعي، فالجانب النفسي يقتضي أن يكون التطوع ميلا فطريا في الإنسان، كونه يدخل في التكوين الفطري (الميل إلى فعل الخير)، أما الجانب الاجتماعي، فيقتضي أن ينمو الميل الفطري للتطوع لما يسود التكافل الاجتماعي في المجتمع، حيث يتأثر الناس لدرجة أن الفرد قد يشعر بالنقص إذا لم يقم بالأعمال التطوعية. لكن للأسف - يضيف الأخصائي النفساني - انتشرت حاليا في بعض المجتمعات كما في المجتمع الجزائري، الأنانية التي تحث على تحقيق المصالح الخاصة فحسب، مما أدى إلى قلة مبادرات التطوع التي تعد جد ضرورية لخدمة مصالح المجتمع، وهو ما يعكسه قول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) : '' لو كانت بيد أحدكم فسيلة وأراد أن يغرسها فقامت القيامة فليغرسها''. وعلى صعيد آخر، ساهمت بعض الظروف السياسية والاجتماعية في التأثير سلبا على نفسية الأفراد، فمن منطلق أن بعض المسؤولين لا يفكرون إلا في أنفسهم ولا يبادرون بالمساعدة والتطوع، يعزف بعض المواطنين عن التطوع بحجة غياب العدالة الاجتماعية، ومن هنا تنشأ ذهنية فاسدة تعلق التطوع على الظروف والمتغيرات.