هي تجربة رائدة شقّت طريقها وسط عالم متلاطم الأمواج، لم تجد خلالها الثلة القليلة التي اضطلعت بحمل الرسالة النبيلة الطريقَ مفروشاً بالورود، بل كابدت الصعاب وغالبت الأتعاب، وسارت بخطىً ثابتة، إلى أن أخرَجت إلى الدنيا أوّل إطار لحماية لغة الضاد في مختلف أصقاع العالم.. إنه ''المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية''... وفي هذا الحوار الحصري لجريدة ''المساء'' يتحدث الأستاذ بشير لعبيدي مؤسس، ونائب رئيسه حالياً، عن تجربة عشرين سنة في ميدان تعليم العربية للناطقين بغيرها في فرنسا، وكيف تسعى كوكبته من المثقفين الغيورين على اللغة العربية إلى توسيع نشاطها واستقطاب من يدعمها ويروي شجرتها الباسقة، التي أعطت ثماراً يانعة كثُر قُطّافها. ''المساء'': إذا كان كل شيء يبدأ بفكرة... فكيف جاءت فكرة إنشاء المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية؟ بشير العبيدي: فكرتنا هذه، خلصنا إليها بعد تراكم تجارب عدد من أساتذة تعليم العربية في أرجاء البلدان الأوروبية، شعر فيها هؤلاء الأساتذة بخصوصيات للتعليم، تختلف عن تلك التي يعرفونها في البلدان العربية فيما يخص المتعلم أولا، والبيئة المحيطة به والظروف التي يتم فيها التعليم ثانيا، ومع هذه الضرورات الجديدة لإنجاح العملية التعليمية للناطقين بغير العربية، كان لا بد من التعاون ونقل الخبرات من أجل رفع هذا التحدي التعليمي الخاص باللغة العربية، وكان أساس الفكرة هو: ''لنتعاون جميعا من أجل أن يكون تعلّم اللغة العربية في أوروبا أمرا متاحا وميسّرا لمن يريده وفق المواصفات العالمية في تعليم اللغات''، تماما كما هو الشأن عند تعلّم أية لغة أوروبية أخرى. ونظراً لكون مدار العمليّة التعليمة هو المتعلّم وعلاقته بالمعلّم، فإن خبرات المعلم وقدراته في التعليم ومكتسباته في الطرائق التعليمية تُعَدُّ من المحدّدات الرّئيسة في إنجاح العمليّة التّعليميّة، من أجل ذلك، وجهنا جهودنا منذ البداية في اتجاه مرافقة المعلمين ومُساندتهم وتأهيلهم ونقل الخبرات إليهم، ذلك لأن المُعلّم الناجح يتلافى كل عيب في المناهج والمقررات، لكن المناهج المكتملة لا تتدارك أبدا قلة خبرة المعلمين، ولقد استفاد من دوراتنا مئات من المعلمين حتى الآن، ولا زلنا نواصل مجهوداتنا بعد ظهور النتائج الإيجابية المشجعة لتلك الدورات. قد يرى البعض في هذه الفكرة ضرباً من المحال لصعوبة تجميع الجهات التعليمية على هدف متقارب، لكن الواقع على الأرض الأوروبية يشهد بأن الوقوف إلى جانب المعلمين والأساتذة بالتأهيل والمُساندة والنصح ونقل الخبرات صار من الضرورات الحتمية، خاصة في ظل الطلب المتزايد باضطراد على اللغة العربية، رغم التّهميش الذي تتّسم به بعض السياسات هنا وهناك في هذا المجال، كما تزداد الفكرة أهمية عندما نعرف أنه برغم الجهود التحسينية التي يبذلها الجميع منذ ما يزيد عن عشرين سنة، فإن الطرق والمناهج والخبرات ما تزال في أمسّ الحاجة إلى التطوير والتبادل والتعاون وتفعيل الذكاء الجماعي.. هذه فكرتنا، خلصنا إليها بعد تراكم تجارب عدة في تعليم العربية كلغة أجنبية في أرجاء البلدان الأوروبية، ومن أجل خدمة تلك الفكرة التقى عدد من الأساتذة على تأسيس فضاء المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية، كترجمة عملية لإرادة التعاون من أجل رفع هذا التحدي التعليمي. - ما هي المتاعب والمصاعب التي واجهتكم في بداية المشوار؟ ؟ لا شك أن المتاعب والمصاعب جزء من كدح الإنسان وبلائه في كل إنجاز مهما كان نوعه، والواقع على الأرض الأوروبية يشهد بأن الوقوف إلى جانب المعلمين والأساتذة بالتأهيل والإسناد والنصح ونقل الخبرات صار من الضرورات الحتمية، خاصة في ظل الطلب المتزايد على تعلّم اللغة العربية، كما أن الطرق والمناهج والخبرات لا تزال في أمس الحاجة إلى التطوير والتبادل والتعاون وتفعيل الذكاء الجماعي، كما لا نستثني من الصعوبات ندرة الموارد المالية والبشرية المخصصة لتطوير تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، مما أدى إلى قلة التفرغ من طرف ذوي الخبرة والكفاءة العالية، فالمسلمون الأوروبيون اليوم يعطون المال لبناء المساجد دون تردد كبير، أما عطاؤهم من أجل بناء الإنسان في المدارس فهو دون المأمول بكثير، من أجل ذلك، نحرص في مؤسستنا على لفت النظر إلى أن بناء الإنسان لا يقل أهمية عن بناء الجدران، وأن بناء المعاهد لا يقل في الأجر عن بناء المساجد والمعابد، بل إن بناء الإنسان أعظم درجة من أي بناء آخر، لأن الإنسان هو الذي يبني الجدران وفكره هو الذي يقشع الظلمات وينير الكون. - هل لمستم التفافاً حول فكرة توطين اللغة العربية في أوروبا من طرف جهات مانحة لها غيرة على لغة الضاد؟ ؟ لقد رفعنا شعار توطين اللغة العربية في أوروبا منذ سنوات عدة، ونتشرف أن نكون من دعاة ذلك، لأن الفضاء الأوروبي متنوع بطبعه، ناهيك عن أن العربية كانت لغة أوروبية قبل أن تعتمد رسميا عدة لغات أوروبية حالية، ولمسنا التفافا حول فكرتنا ودعما معنويا لا بأس به، صادراً عن عدد من الأفراد والمؤسسات في أوروبا والعالم العربي، وتصلنا رسائل أسبوعية تثمن جهودنا وتدافع عن الفكرة، ومن الطبيعي أن الجهات المانحة التي لها غيرة على اللغة العربية، تحتاج إلى وقت وتريث وتبين قبل أن تقرر تقديم دعمها، وذلك بالنظر إلى الظروف الدولية الحالية المتسمة بالشك والريبة في كل الأموال الممنوحة، خشية أن تقع في أيدي أناس يستعملونها في غير ما رصدت له، ونحن نعلم جميعا ما ترصده الكثير من البلدان الأجنبية من دعم مالي سخيّ من أجل تعليم لغاتها وترويجها بشتى السبل في أرجاء الوطن العربي مشرقا ومغربا، والعلم بذلك سينتهي بتلك الجهات المانحة إلى أن تقوم بالشيء ذاته لدعم تعليم اللغة العربية في أوروبا بشكل فعال، لذلك فإن الجدية والاستمرارية وتحقيق النتائج على أرض الواقع هي من شروط طلب الدعم والحصول عليه، فنحن في عالم جديد لم تعد الحدود الجغرافية هي المحدد الوحيد، بل لقد صارت اللغة إحدى تلك المحددات، فكلما امتدت اللغة، كلما اتّسعت آفاق الحدود. - ما هي أول مدرسة تم فتحها لفائدة الجاليات وغيرها؟ ؟ المدارس الأولى التي تم فتحها لتعليم اللغة العربية في أوروبا تختلف باختلاف البلدان، ولا يمكن أن نتحدث عن أول مدرسة لتعليم اللغة العربية حاليا على مستوى ''الجاليات'' دون توضيح الإطار التاريخي لتعليم اللغة العربية في بلدان أوروبا، فتعليم اللغة العربية في أوروبا أقدم بكثير مما قد يتبادر للذهن، ففي فرنسا مثلاً، ومثلما أشار إلى ذلك رئيس المرصد، الأستاذ أحمد الدبابي، في مداخلة له حول هذا الموضوع السنة الماضية في اليونسكو، مرّ تعليم اللغة العربية رسميا بمراحل عدة: في القرن السادس عشر، وبالتحديد سنة ,1530 بادر ''فرانسوا الأول'' إلى تأسيس ''معهد القرّاء الملكيين'' الذي تحّول لاحقا إلى ما يعرف ب''معهد فرنسا''، حيث تمّ تخصيص أوّل هيئة لتدريس اللغة العربية، وفي 1795 تم تأسيس ''مدرسة اللغات الشرقية''، وكانت العربية إحدى اللّغات الثلاث التي تُدرَّس إلى جانب التركية والفارسية، وإبّان المرحلة الاستعمارية، في أواخر القرن التاسع عشر، اعتُمِد تدريس اللّغة العربية رسمياً، سواء في المدارس الفرنسية المُقامة داخل المستعمرات بدول المغرب الكبير أو في معاهد بعض المدن الكبرى بفرنسا، بعد ذلك انضمت اللّغة العربيّة الفصحى والعامّية إلى موادّ المناظرات المعتمدة في الوظيفة العمومية، أما في سنة ,1905 فقد تمّ إصدار أوّل قرار لتخصيص ''شهادة تبريز'' في اللّغة العربيّة... وعلى الرغم من أن الدراسات العربية ظلت حتى استقلال الجزائر، تحت راية استعمارية، فقد ظهر جيل من كبار الباحثين والدّارسين للّغة والثقافة العربيّتين عُرفوا بالمستشرقين، من أبرزهم ''ريجيس بلاشير'' و''شارل بيلاّ'' و''جاك بارج بيرك'' و''فانسون مونتاي'' و''أندريه ميكال''، أما في سنة 1975 فتم بعث أوّل شهادة الكفاءة المهنية للتّدريس ''كاباس'' خاصّة باللّغة العربيّة.. ومنذ ذلك العهد اعتمدت اللّغة العربيّة ضمن اللّغات الحيّة الاختيارية في التّعليم الثّانوي الفرنسي. أما على مستوى الجمعيات، فقد ارتبط تعليم اللغة العربية ارتباطا وثيقا بتشييد المساجد، ويمكن القول إن تعليم اللغة العربية نشأ وانتشر في بداياته ولا يزال مع افتتاح المساجد والمصليات، ثم ظهرت الحاجة، بحكم العدد والتطور، إلى مدارس أكثر حِرَفية واستقلالية عن المساجد، فتم افتتاح مدارس شمالي باريس، حيث يتجمع عدد كبير من الناطقين باللهجات العربية، ثم بدأت التجارب تتطور إلى بعث بعض المؤسسات التعليمية الجامعية الخاصة في المدن الكبرى، ولقد رصدنا في مؤسستنا أن تعليم اللغة العربية في إطار الجمعيات الأهلية في فرنسا يحوز على النسبة المئوية العليا، ولا يمثل التعليم الرسمي الفرنسي للغة العربية سوى نسبة ضئيلة جداً، قياساً إلى عدد الذين يتعلمون العربية في المراكز الإسلامية والمدارس التكميلية الخاصة. - كيف تقبّلت السلطة الفرنسية هذا المشروع، وكيف تتفاعل الجهات الرسمية مع مؤسستكم؟ ألمْ تلمسوا نوعاً من التخوف والإحجام، ما دمتم تزاحمون لغة البلد؟ ؟ اللغة العربية لم تزاحم اللغات الأوروبية أيام مجدها في الأندلس، كما أنها لن تنافسها اليوم على الإطلاق، وإنما عمَلُنا هو من أجل أن تتكامل اللغة العربية مع تلك اللغات، كجهد تعارفي ثقافي إنساني، قبل كلّ شيء، فكما أننا لا نزاحم اللغات الأوروبية، فلا حكمة أبداً في أن تزاحم العربية لغة أحد من الناس على الإطلاق، لأن التعدّد اللغوي من آيات الله ''ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم''. أما عن موقف السلطات الفرنسية، ففرنسا دولة قانون ومؤسسات ونحن جمعية قانونية أوروبية تعمل وفق القانون الفرنسي والأوروبي ونحترمه لأننا مواطنون أوروبيون ومن واجبنا احترام التشريعات سارية المفعول، ولم نشعر بأي نوع من المضايقة على الإطلاق منذ بدء نشاطنا سنة ,2007 أما التخوف والإحجام، فلا وجود له لأننا لا نزاحم أبدا لغة أي كان في أوروبا، لا أحد في مؤسستنا يطالب أن تكون العربية هي اللغة الأولى أو اللغة الأم، العربية للناطقين بغيرها هي لغة من ضمن اللغات الأوربية الأخرى التي يتعلمها أي مواطن أوروبي، وكما أن الحكومة الفرنسية تشجع تعليم اللغة الإنكليزية لأسباب متعلقة بالمنافسة الاقتصادية الدولية، فمن مصلحة فرنسا تشجيع تعليم اللغة العربية للأسباب ذاتها، تماما كما شجعت مؤخرا مواءمة التشريعات الفرنسية لكي توافق نشاط البنوك الإسلامية، المصلحة الفرنسية تقتضي اليوم تشجيع تعليم اللغة العربية لأن القناعة موجودة بأن التمسُّك بالهوية الذاتية للمواطنين من أصول عربية عامل هام في توازن هوية هؤلاء المواطنين وقدرتهم على التواؤم مع المواطنة الأوروبية. - ألا ترون أن فكرتكم تم استغلالها من ذوي ''النظرة التجارية'' وبطريقة قد تميّع الأمور وتجهض المشروع الواعد؟ ؟ فكرتنا سفينة راسية في مرفأ الثقافة، إن أبحرت تلك السفينة، فلن تدفع أشرعتها إلا رياح المعرفة والتعارف والفضيلة، عبر الكلمة الطيبة، لذلك لا نخشى على فكرتنا من أن يتم استغلالها من طرف ذوي النظرة التجارية أو السياسية، إنها فكرة ثقافية بحتة، ولا يمكن تطويع الثقافة للمشاريع التجارية أو السياسية، فالثقافة تغدق القلوبَ والأَفهامَ بالمعاني، لا تثري الجيوب والحسابات المصرفية. ولئن كانت الثقافة تستنير بالخيارات المبدئية الكبرى، إلا أنها لا تصلح أبدا لأن تكون ملعباً للمنافسات السياسية، قد تكون كثرة المشاريع والمدارس هي في حدّ ذاتها حالة صحيّة بامتياز، والزّمن كفيل بفرز الحَسَن من الرّديء، وقد تكون بعض المشاريع ذات خلفية اقتصادية تجارية، فلتكن، شريطة أن تحترم أصول التعليم وتقوم على أسس منهجيّة متوافقة مع الضوابط العلميّة التعليميّة السّائدة في البلاد الأوروبيّة. - في رأيكم ما هي مواصفات مدرّس اللغة العربية لغير الناطقين بها؟ ؟ مهمة تدريس العربية للناطقين بغيرها أعقد بكثير من تدريس اللغة الأم مهما كانت، ونحن لا ننطلق من قوالب نظرية لتحديد مواصفات المدرّس بقدر ما ننطلق من إطار مرجعي للتدريس، إذ يوجد اليوم إطار مرجعي لتدريس اللغات الأجنبية في أوروبا وجهدنا مُنصبّ على إنتاج أول إطار مرجعي لتعليم العربية للناطقين بغيرها، متوافق مع الإطار المرجعي الأوروبي مع أخذ خصوصية اللغة العربية في الاعتبار، ومن أهم خصائص التدريس عندنا أن نجعل المتعلم نقطة الانطلاق ومركز الاهتمام وخط الوصول في آن واحد، أغراض تعلم العربية مختلفة باختلاف الأشخاص والآفاق، ومن واجبنا جميعا أن نرافق المعلم ونساعده من أجل أن يكون منشطاً ناجحاً يتبين أهداف المتعلمين، ويطوع لها الأهداف المرسومة في المقرر التعليمي، مع احترام ضوابط الحرفية في التعليم وتعزيز تخصص تعليم العربية للناطقين بغيرها كرسالة.. نعم، هذه معادلة صعبة نحن على وعي كامل بأن المعلم بمفرده لا يمكنه حلها بسهولة، لذلك لا نتوقف عن تنظيم دورات التأهيل والدعوة لحضورها من أجل نقل الخبرات وتطوير المعارف وتذليل الصعوبات. ومن كان همه في هذه المهنة أن يكسب مالا فحسب، فليس تعليم العربية للناطقين بغيرها من المهن التي تصلح لذلك، إنها مهنة تكسب صاحبها شيئا آخر غير المال، إنها مهنة تعلم صاحبها نقل معاني الوجود ووشائج الحياة عبر كلمات لغة أجنبية إلى أناس آخرين، إنها قيميِّة حضارية في المقام الأول، (ومن علمني حرفاً، صرت له عبداً). - كيف يتم اختيار المدرّسين، وما هي ضمانات مواصلتهم للعمل في هذا الحقل، أي هل هناك عقود عمل أم الأمور تجري بطريقة تطوعية؟ ؟ في كثير من الحالات تتم الأمور بشكل هو أقرب للتطوع منه إلى الحرفية، ويتم اختيار المدرسين في بعض المؤسسات التعليمية بعد اختبار المؤهلات اللغوية خاصة، لكن من واجبنا أن نعترف بأن الأمور ما تزال تتم دون مقاييس متفق على حدودها الدنيا لدى الجميع.. في سنوات سابقة وجدت نفسي في وضع من عليه أن يختبر مؤهلات بعض المعلمين قبل انتدابهم، وكم كانت دهشتي وخيبتي عندما كنت أستقبل المعنيين في مكتبي، لأتكلم العربية الفصحى مع كثير ممن يتقدم للتعليم، فلا يستطيع هؤلاء محادثتي بالفصحى، عذرهم في ذلك اعتياد عدم تداولها في حياتهم اليومية، فكنت أشعر بحزن عميق لأنني أفكر في حال التلاميذ المساكين، وقد وقف بين صفوفهم معلم يأمر وينهى، يعلمهم لغة لا يتقنها هو ذاته، ويجب التنبيه هنا إلى أن العدد الأكبر من معلمي اللغة العربية هو من المعلمات، كون المرأة ذات حظ أقل من حظ الرجل في إيجاد العمل الذي يوافقها في المجتمع ككل، إضافة لإمكانية ارتداء المسلمات في أوروبا غطاء الرأس، مما يحول دون الحصول على عمل خاصة في فرنسا، فتضطر الكثيرات إلى التوجه نحو المراكز الإسلامية لتعليم اللغة العربية، وهن لسن من ذوات الاختصاص، ولا يتم تأهيلهن في ذلك، والأدهى أن الأقسام التحضيرية والأولى توكل لمن تنقصها التجربة والمؤهلات المطلوبة، وهو العكس تماماً مما ينبغي أن يكون، هذا كله يشرح الدواعي التي ساعدت على إطلاق ''مشروع الإطار المرجعي لتعليم العربية للناطقين بغيرها'' كي لا يترك المعلم دون تأهيل واستدراك مناسبين، فهما ضمانة مواصلته العمل. - الصحافة الأوروبية على اختلاف وسائطها لم تعط المشروع حقه من التعريف والتحسيس والتنويه، ألا ترون أن ذلك محاربة للمشروع؟ أم أن قلة وسائلكم جعلتكم لا تصلون إلى حسن إقناع الوسائل وصنع الحدث الذي تلتف حوله الصحافة؟ ؟ تتابع بعض وسائل الإعلام مسألة تعليم اللغة العربية من حين إلى آخر، فمثلاً، نشرت صحيفة ''لوموند'' في شهر سبتمبر 2009 تقريرا مفصّلا حول المسألة، وذكرت فيه مسائل مهمة للغاية، إلا أن الإعلام لا يمكن أن يثير مسألة لا يثيرها المعنيون بها مباشرة، ناهيك عن أن الإعلام الأوروبي يراعي اهتمامات الناخبين والنّخب وعامة القراء بدرجة أولى، وليس تعليم اللغة العربية من أولويات أحد من السّاسة الأوروبيين اليوم، على الأقل فيما يُصرّح به، أما نقص اهتمام الإعلام بمشروعنا بالذات، فعاش من عرف قدره، إذ لم نبلغ بعد ما يجعل الإعلام الغربي يتابع أنشطتنا، فضلاً عن أن عدم الاهتمام يعود إلى تقصير منّا أولا، رغم وعينا بأهمية الأمر، لكن كانت خياراتنا ولا زالت في إطار دراسة واقع تعليم اللغة العربية للتعرف على نقاط الضعف والقوة وجمع جهود المخلصين من أجل وضع إستراتيجية قصيرة ومتوسطة المدى من أجل توطين اللغة العربية وتحسين الأداء، وليس من أغراضنا أن نبرز في الإعلام الغربي، بل مهمتنا الوحيدة هي خدمة اللغة العربية والرقيّ بها. - وبالنسبة للصحافة العربية والإسلامية، هل هناك ترحيب بالمشروع ووعود بدعمه وتبنّيه؟ ؟ رحبت بعض الصحف في المغرب وسوريا بمشروعنا، ونُشِرَت عدة مقالات في ذلك مع التعبير الواضح والصريح عن الدعم المعنوي، كما أتاحت لنا بعض الفضائيات فرصة التعريف بالمشروع في أكثر من فرصة، وبهذه المناسبة أوجه خالص الشكر لصحيفتكم ''المساء'' في الجزائر التي فتحت المجال للتواصل مع القراء الجزائريين، وقد تفاعل بعض المخلصين معنا ونأمل أن يثمر ذلك دعما حقيقيا من أجل بناء مؤسسة أوروبية متخصصة في تأهيل مدرّسي العربية للناطقين بغيرها، والمجال متاح لكل الخيرين وهم كثر من أجل عمل الخير وفق شروط المهنية والحرفية طلبا للمردودية والنجاح في مشاريع ثقافية غير ربحية، لكن نتائجها الإيجابية ستعم الجميع في أوروبا في شكل انفتاح جديد على الثقافة العربية الإسلامية، وتحسين صورة العرب والمسلمين، ليكونوا جزءاً متماسكاً من مكونات النسيج الاجتماعي الأوروبي المتنوع، نحن نشتغل في ظل حالة اجتماعية متسمة باتساع نطاق الكراهية للعرب والمسلمين، ومؤسستنا تريد أن تكون اللغة العربية وسيلة فعالة للحد من تلك الكراهية، على اعتبار أن الإنسان عدوّ ما يجهل، وليس ثمة ما هو أفضل من اللغة العربية للتعريف بالثقافة والحضارة. - ماهي خطتكم لتمويل هذا المشروع الحضاري؟ ألمْ تتصلوا بالمؤسسات الخيرية والعملية والفكرية والاقتصادية لتبني المشروع''؟ أم أنكم ترضون بالقليل غير الكافي؟ ؟ اتصلنا بعدد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، في أوروبا وفي العالم العربي، ومازلنا نواصل الاتصال، وكما ذكرت آنفا، تحتاج تلك المؤسسات إلى وقت ودراسات وضمانات لكي تقوم بتمويل مشاريع ذات حجم كبير، وتقوم خطتنا على نقطتين: أولا: مواصلة العمل التأهيلي للمعلمين في فرنسا وأوروبا بصرف النظر عن وجود التمويل من عدمه، متعاونين في ذلك مع كل المؤسسات الراغبة دون استثناء، وثانيا: تقديم الملفات التفصيلية للجهات المانحة من أجل دراسة مختلف المشاريع المستقبلية، بغية الحصول على تمويل يسمح بالمضي قدما في بناء المؤسسات المتخصصة في دعم تعليم العربية للناطقين بغيرها، ونحن على يقين بأن أهل الخير، في الجزائر وكذلك في العالم العربي والإسلامي، سيقدّرون هذا العمل أحسن تقدير، لقد قمنا بخطوات عملية منذ سنة ,2007 جعلتنا نأمل ذلك، فقد قررنا - مثلاً - في مؤسستنا أن تكون العربية الفصحى هي اللغة الرسمية في كل اجتماعاتنا ومكالماتنا الهاتفية ومكاتباتنا واتصالاتنا، كما قمنا بخدمة تعريب مئات الحواسيب، واقتنينا مئات الملصقات للأحرف العربية وأهديناها مجاناً للناس لكي يتمكنوا من الكتابة بالعربية على الحاسوب، وقمنا بحملة واسعة على شبكة المعلومات لحث الناس على الكتابة بالفصحى وإصلاح الأخطاء وتجنُّب اللحن والحفاظ على اللغة العربية الصحيحة، وأصدرنا ما يقارب أربعين نشرةً رقميةً، يقرؤها آلاف القراء في أوروبا والعالم، وساهمنا في ملتقى اليونسكو السنة الماضية، وفي ملتقى مجلس الشيوخ الفرنسي، وملتقى عالمي في جامعة حلب مؤخراً، وشاركنا في برامج إذاعية كإذاعة الشرق في باريس لحث المستمعين على أهمية استعمال الفصحى، وأحيينا اليوم العالمي للغة العربية عبر برنامج مطوّل حول الفصحى في إحدى الفضائيات، وقمنا بتقديم خدمة دورات تدريبية، أغلبها على حسابنا الخاص، استفاد منها مئات من معلمي العربية في أوروبا، كما نرسل مَن يمثلنا في كثير من المناسبات في العالم. لكن كل هذه الأنشطة ليست سوى قطرة من غدير لا بد أن يغذي وجودنا في هذه البلاد. - كلمة ختامية.. ؟ في الختام، أود أن أحيي بلدي العظيم الجزائر الذي لا يمكنني أن أنساه أبدا، وفي واقع الأمر، فقد ولدتُ جزائريا في حياتي مرتين: أولاهما من رحِم أم جزائرية، أصلها من مدينة مغنية، وثانيهما، أنني كنت في سنة 1988 في زيارة لخالي رحمه الله في الجزائر العاصمة، وكنت مولعا بالسباحة، فنزلت إلى شاطئ ''الرايس حميدو'' الصخري، حيث كان يقطن خالي، فجذبتني تيارات مائية في حين غفلة فغرقت وفقدت الوعي، ولم أفق إلا وشاب جزائري يسعفني على الشاطئ نافخا في رئتي الهواء عبر فمي، وقد تجمع أقران له حولي، فلما استرجعت وعيي، هلّل هؤلاء وكبّروا، فكأنّي بأصواتهم لا تزال تحرك أوتار روحي إلى يوم الناس هذا، من أجل ذلك، للجزائر في نفسي محبة لا توصف، ولم تزدني المحن والفتن التي مرت على شعب الجزائر إلا محبة واحتراما وإجلالا.. لقد سمحت لي الحياة الطويلة في أرجاء أوروبا أن أعرف أكثر قيمة الجزائر وأهلها، وكم بي من حنين لأن أزور الجزائر من جديد، فأمشي الهويني بين مروجها، وأرقب غروب شمسها على كثبانها الرملية الحريرية وأستنشق شروق يومها الجديد السعيد على ضفاف بحرها أو على سواحلها الخلابة الساحرة، منشداً أبياتا قد نظمتها اعترافا بفضل الجزائر، وذلك في كتاب لي قيد التأليف، سيصدر قريبا، اسمه ''خواطر الأنفاق''، مطلعها : أَرْضُ الجَزائِرِ مِسْكٌ وَعَنْبَرْ فِيها بَيَاضٌ يُعَانِقُ أَخْضَرْ عَلَيْه هِلالٌ دَقٍيقٌ مُدَوَّر وَنَجْمُ ثُريَّا مُحَنَّى بأَحْمَرْ وِشَاحٌ لِعُرْبٍ، بزِينَةِ بَرْبَرْ وها هو عنواننا لمن يريد الاتصال بنا: