اللغة العربية تُهان على أيدي أبنائها، وقد كان الانتصار لها من أهم شعارات نضالهم الطويل وكفاحهم الشعبي المسلح، فكيف حصل هذا التناقض؟ وهل المصيبة قضاء لا يجب الثورة عليه، أم أن القدر كله فيما تصنعه الأمة ؟!؟ لم يكن حال اللغة العربية في معظم بلدان العالم العربي أحسن منها في الجزائر، غير أن الوضع ازداد انحدارا، وبلغت فيه نسبة انهزام اللغة درجة مخيفة، تنذر بعواقب خطيرة ليس على المستوى اللغوي فحسب، وإنما على النسيج الاجتماعي للمجتمع ككل، ومن ثم، على مستوى استمرارية الدولة • بالرغم من أن الوضع اللغوي الشاذ في الجزائر، يكاد يعتبر فريدا من نوعه، نظرا للظروف التاريخية المعروفة، إلا أن الجزائريين لم تفرط نصوصهم التشريعية ولا قوانينهم التطبيقية في مسألة تحصين اللغة الوطنية - نظريا - من عبث العابثين، ولم تستطع أية حكومة - منذ أن استردوا جزائرهم - أن تتصرف في تلك القوانين بما يخالف إرادة الشعب، غير أن الواقع كان يعاكس تلك القوانين، بل ويستهتر بتلك الإرادة في كثير من الممارسات التي قام بها من لم يستسيغوا استعادة الجزائر لهويتها التاريخية الحضارية، وأنصارهم المندسون في مختلف مفاصل الدولة، ضمن مواقع لا نراهم فيها ولكنها فاعلة، ولم يكونوا يستطيعون الجهر بشذوذهم، إلا بعد أن عبّد لهم رئيس حكومة الإصلاحات التي أطاحت بنفسها في بداية التسعينيات، من القرن الماضي، المجاهد وابن الشهيدين "مولود حمروش"، عندما فتح وسائل الإعلام الثقيلة أمام كل من يريد أن يتباهى في الحديث بلغة الاستدمار، حتى صار ذلك موضة المتحدثين في هذه الوسائل، بل زاد في تشجيعهم عندما صرح أن اللغة الفرنسية هي اللغة الوطنية الثانية، وربما استحى أو جبن أن يقول إنها الأولى !!! منذ ذلك التاريخ، وحلف المعادين للغتهم يتعزز بشرعية الانتهازية والتزلف، حتى تحولت مؤسسات وطنية كبرى إلى قلاع حقيقية لتأمين اللغة الفرنسية، وجدار تتكسر عليه اللغة الوطنية، فشركات عملاقة كسونلغاز والجزائرية للمياه مثلا، تخاطب زبائنها بفواتير لا مكان فيها للغة العربية، العاجزة عن تحصيل ما أصبح ينذر بفك الارتباط بين المواطن وتلك المؤسسات، وحذت حذوهما الشركات الوافدة العاملة في مجال الهاتف، على سبيل المثال، وقد رأت ما يتبع وزارة البريد وتكنولوجيات الإعلام من إدارة الظهر للسان الأمة، التي من حقها أن تدخل عصيانا تجاريا فتمتنع عن دفع ما يلزمها، حتى تلتزم تلك المؤسسات بأحكام الدستور الذي يعتبر العربية اللغة الرسمية في مختلف أوجه التعامل، وحتى تحكم القانون الذي يجرم من لا يتعامل بها • الشارع الجزائري انقلب على نفسه فجأة، وتعرى هو الآخر، ونزع قندورته ولبس في غفلة من الناس البيكيني، وراحت واجهاته تنافس نظيرتها بالضفة المقابلة، في الترويج للغة التي لم ولن تكون محايدة على الإطلاق، وزادتها استهتارا لافتات الإشهار، التي يبدو أن أصحابها عجزوا عن تسويق بضائع غيرهم بلغة شعبهم، أو تزاحم الأكشاك بعناوين صحفية خارج القانون، تجد من يمدها بأسباب البقاء رغم محدودية المقروئية باللغة الأجنبية لدى الأجيال الجديدة، وراح العاقون حضاريا يعممون إعاقتهم على المجتمع برمته، وأصبح التعامل مع اللغة الوطنية والرسمية يتم باستخفاف، ومع الدستور بتناقض، ومع الانتماء الحضاري باستهتار، حتى بدا وكأن الجزائري يصارع نفسه، فكأنه وهو يتحدث إليك إنما هو في صراع مع شخصين، ويناطح لغتين ويضيع بين انتماءين، لتخلص في النهاية، أنك أمام ظاهرة بشرية تفتقد الشخصية واللغة والانتماء• يبدو أن رسالة الأديب العالمي "الطاهر وطار" إلى رئيس الجمهورية، وهو يشكو حال لغة حملته إلى العالمية في كل الدنيا، ولم تسعفه في مكتب بريدي نكرة أن كل العاملين فيه من خريجي المدرسة الجزائرية، لم تجد نفعا، فالرئيس استنكر من قبل الوضع المزري لهذه اللغة، وأعاب محاصرتها بخليط من الكلام الفرنسي والشارعي، الذي لا يكون جملة مفيدة للسامع، ويخدش حياء اللغة العربية ويعرقل تطورها، ولم يؤثر كل ذلك في القوى التي تقول إنها فاعلة على المستوى الشعبي، فهؤلاء الذين يحرثون الأرض جيئة وذهابا، منادين بعهدة ثالثة للرئيس لم يوفوا لصاحب العهدة ما عاهدوه عليه، من تحقيق لأهداف برنامجه، بل عملوا - في مختلف المواقع - على إحداث شرخ بينه وبين الشعب، الذي انتخبه عنوانه الإساءة إلى العربية بخلق جفوة لغوية زادها اتساع الفجوة بين النصوص وتطبيقها• يراهن المعاقون لغويا على عامل الزمن، في جعل اللغة الوطنية كيانا مهجورا، وقد انتفت الحاجة إليه بعد حجم كل المعاملات بغيرها، والانطلاق في التنمية بدونها، وهم بذلك إنما يختطفون الجزائر ويعيدون احتلالها، وينتصرون -من إرث الشهداء - للاستدمار عندما جعل العربية لغة أجنبية في عقر دارها لمائة واثنين وثلاثين عاما كاملة، ولم يكن هؤلاء المعاقون لينجحوا لولا التحالف غير الشرعي بين ثلاث فئات: * فئة تناصب لغتها العداء المتأصل - في السر والعلن - ولظروف تاريخية، ترتبط إما بانحيازها العائلي إلى إدارة الاحتلال السابقة، وإما لإيمانها الضال بأنها الوريث الشرعي لفرنسا المخرجة من الجزائر بالسلاح • * فئة تعتمد على الاتكالية في التعامل مع اللغة، ولأنها تعتقد أنها - أي اللغة - منصورة تاريخيا وربانيا، فإنها لا تبالي بما يحدث لها، وكأن لسان حالها يقول : إن للغة ربا يحميها ! * فئة هجين من الفئتين، وهي كثيرة لا تستجيب إلا لحاجة البطن والجيب والمنصب، فهي تتحرك بالغريزة، وقد عطلت أعمال العقل، ولا يهمها ما يحاك للغة الجامعة، وما يدبر للسان الموحد، فهي كالحرباء، أو كالريش في ذنب الديك، أينما مالت الريح تميل• ما معنى أن يجد خريجو الجامعة المتعلمون بلغتهم الوطنية - خاصة المحظوظ منهم - أنفسهم أمام منصب عمل لا يتأهلون إلى الدخول إليه، إلا إذا أثبتوا قدرة فائقة على العمل بلغة كانت في جامعتهم لغة أجنبية، وهي لغة شحيحة قليلة الثراء العلمي، تاركين لغتهم الوطنية التي يفترض أنهم مطالبون بتطويرها في إطار إبداعهم اليومي، في أي مستوى من مستويات الأعمال والخدمات، إنها عملية تحييد متعمدة لأجيال كاملة، ابتدأت بجعل القلة القليلة التي لم تستطع في السابق معرفة لغتها الوطنية، لأسباب موضوعية خاصة أو تاريخية، أن تظل في منفاها اللغوي، وُتفرض عليها الإعاقة الدائمة، مرورا بتحويل الذين يعرفون أكثر من لغة، إلى أدوات في خدمة المشروع التغريبي، أو تحييدهم على الأقل، لينخرطوا تلقائيا في إعادة انتشار اللغة الأجنبية، وانتهاء بعزل آخرين في لغات لا يهم أن تكون حية أو ميتة، شريطة أن تكون أعمالهم تصب في تطوير اللغة الفرنسية، وتعمل على عرقلة التواصل بينهم وبين أمتهم، مما يجعلهم ينفصلون شيئا فشيئا عن هويتهم، ليرتموا في أحضان هوية فاتحة رجليها لكل الوافدين من هوياتهم الوطنية أو القومية، وقد تكون تلك هي الفاجعة، عندما يتناسل هؤلاء ويصبحون أقليات تستقوي على أمتها بالخارج المتربص• إذا كان العاقون الفاعلون في شّل اللغة، العاملون في المسألة اللغوية، قد منعوا بسلوكهم النهضة العلمية الحقيقية، التي يشترك في إنجازها الجميع، وأخّروا عملية إثراء اللغة العربية التي كان يمكن أن تتم من خلال الترجمة منها وإليها، حتى بدت هذه اللغة في أعين بعض بنيها، أنها صغيرة لا تقوى على النهوض بمتطلبات العلم والتكنولوجيا والاتصال، مما حدا ببعضهم أن يتعلم في أقل من ستة أشهر أكثر من لغة، ولا يستطيع أن يتحدث بلغته - المربوط بها والصاعد في سلم الترقيات على أكتافها - أربعين عاما، فإن هذه اللغة قد كبرت في أعين الكبار، فبعض الدول الكبرى لم تعد تبعث إلى الجزائر من سفرائها إلا من يقرأ العربية ويحسن التحدث بها وحتى ببعض لهجاتها، وهذه المملكة المتحدة ترسل قناة ال bbc بالعربية، وهذه الولاياتالمتحدةالأمريكية تطلق قناة الحرة في عز حروبها المتداخلة، وهذه روسيا توجه قناتها العربية إلى مختلف أصقاع المعمورة، وكذلك فعلت فرنسا من خلال france24، ويعمل الاتحاد الأوروبي على إضافة العربية ضمن شبكة Euronews إلى مجموع لغات الاتحاد، ومحرك البحث "غوغل "google بدأ في نشر الكتب العربية على فضائه العالمي الواسع، كل ذلك للأهمية التي تعرفها تلك الشعوب والدول في اللغة العربية، وما يمكن أن يحدثه الناطقون بها في توجيه مسار العلاقات الدولية، في حين يعمل الصغار المُقعَدون على التنطُّع بلغة غيرهم، والحط من لغتهم التي رفعها الآخرون رغما عنهم، وأمام هذا الوضع الخطير، يبدو لي، أنه لم يبق للرئيس "عبد العزيز بوتفليقة" الذي استهجن -في خطبه -الواقع المزري، إلا أن يخرج من مرحلة الاستنكار - كما تفعل الأغلبية التي لا تملك حولا ولا قوة -إلى مرحلة اتخاذ القرار السياسي العازم والجازم والحازم، على لغة المغفور له بإذن الله "مولود قاسم نايت بلقاسم" طيب الله ثراه، لأنه - أي الرئيس - مُخوَّل من طرف الشعب ومسؤول أمامه، في اتخاذ القرارات الصائبة باسمه في اللحظات الحاسمة، وهل هناك لحظة تهدد اللغة الوطنية والرسمية بالتقهقر والانهزام بين أهلها أكثر مما تعيشه اليوم ؟!؟