صدرت مؤخرا للباحث محمد بن سليمان خليفة، دراسة تاريخية مهمة خاصة بالمحتشدات إبان الثورة التحريرية، علما أن أغلب الوثائق والمعلومات المقدمة مستقاة من تقارير ومعلومات لرجال المخابرات الفرنسية، وكذا لحقوقيين ومؤرخين.الدراسة مؤسسة على وثائق رسمية ومنشورات وتعليمات ومكاتبات تبادلتها السلطات العسكرية والإدارية والسياسية، وتظهر للعيان معاناة نصف المجتمع الريفي المسجون في المحتشدات. أغلب ما جاء في الكتاب هي معلومات للكاتب الفرنسي ميشال كورناطون الذي عمل في المخابرات الفرنسية إبان حرب التحرير، كخبير مكلف بفك شفرة المكالمات اللاسلكية المشفرة لجيش التحرير الوطني لصالح الجيش الفرنسي المتواجد بمنطقة الأخضرية وببلاد القبائل.. إضافة الى تقرير وارنيي الذي أثار فيه صاحبه أمام الجمعية الوطنية الفرنسية بتاريخ 4 أفريل 1873 المجاعة التي أودت في شتاء 1867 1868 بحياة 500 ألف جزائري أي خمس السكان. وهناك شهادات للكاتبة الفرنسية سيمون دوبو فوار، التي أثارت أمام الرأي العام الفرنسي والعالمي، معاناة الجزائريين في مراكز الاحتشاد إبان حرب التحرير. وتوجد أيضا مرافعة أندري مورسي وزير الحرب أمام مجلس قضاء الجزائر في قضية ''الحواجز'' مما جاء فيها، خلفيات وأسباب عزل الجزائر عن بلدان الجوار من خلال حواجز مكهربة على طول الشريطين الحدوديين مع تونس والمغرب والمعروفة بخطي شال وموريس. لقد عرف المجتمع الجزائري تقلبات كثيرة أثناء تاريخه الحديث، بفعل أساليب التقتيل والتدمير التي واجه بها الجيش الفرنسي مقاومة الشعب الجزائري في الحقبة الاستعمارية. إن الضباط الفرنسيين الذين خاضوا حرب التحرير (1954 1962)، لم يبدعوا سياسة التجميع القسري للسكان من فراغ، بل استمدوا منهجيتهم من ضباط القرن ال19 السباقين الى تجميع قبائل بأكملها في محتشدات. هذا الكاتب الفرنسي ''لا باسي'' يصف كيف جمعت قبيلة ''اولاد قصر'' بالشلف، يقول ''جمعنا هؤلاء البؤساء في تجمعات يزعمون أنها قرى كل واحدة تضم 100 كوخ التي انجزها عساكرنا على شكل ''قرباء'' آخذة في الانهيار، كما أن الأمراض بدأت تدخلها، وفي إنجازها سخرت القبائل كرها لنقل الأخشاب والأحجار، كما أن توزيع الأراضي كان يخصص الخصبة للمستوطنين ويجعل السكان هم الخدم''. ويقول القبطان في سلاح الهندسة والرئيس المحكم في الشؤون العربية في الشلف، ''شارل ريشارد'': '' إن ناحية الأصنام (الشلف حاليا) في معظمها نضمنها على هذا الشكل أثناء الحرب''، ليقول ''نحن نعتقد اعتقادا جازما أن فكرة إقامة التجمعات من الخيام التي يبقى الأهالي العرب فيها رهن الاعتقال، فكرة تحمل السلام للبلاد، ذلك أن الأهم هو تجميع الشعب المنتشر الذي يسهل البحث عنه عند الحاجة لنجعله رهن إشارتنا ولنستحوذ على ماله وعقله''. الجيش الفرنسي كان أثناء حرب التحرير (54 62)، يتذرع بدوافع أمنية عند تجميعه السكان في مراكز الاحتشاد ويغطي أهدافه العسكرية بدواع انسانية ويدعى أنه بهذه السياسة يوفر الحماية للمحتشدين من ارهاب ''الفلاقة''، بينما في حروبه الأولى ضد المقاومات الشعبية في القرن ال19 كانت المحتشدات ترمي أساسا الى تضييق المجال على الجزائريين لأجل الاستيلاء على ما تبقى من أراضيهم الخصبة، وكما يقول ريشارد في رسالة بعث بها الى باريس : ''هكذا يا صديقي العزيز ينبغي أن نحارب العرب وينبغي أن نقتل كل الرجال ابتداء من سن ال15 وأن نأخذ جميع النساء والأطفال وأن نضعهم في السفن ونبعث بهم الى جزر الماركيز أو غيرها، وبكلمة مختصرة ينبغي أن نقضي على كل من لا يركع أمامنا ''. لقد كان عند الإعلان عن وقف إطلاق النار لدى السلطات الحاكمة للجزائر في الفترة الانتقالية، تخوف كبير من آثار تفكك المحتشدات ومما قد ينجر عن هذا التفكك من وقوع نزوح جماعي فوضوي جامع ومفاجئ، معمما للاضطرابات في المجال الإنساني والاجتماعي، غير ان وقف إطلاق النار اعلن عنه وكل ما كان يخشى منه من ان تصاحبه ردود فعل لا شعورية وانفعالات يصعب التحكم فيها كانفكاك مراكز الاحتشاد، كل التوقعات لم يحدث منها شيء، ومرد الفتور في مغادرة مراكز الاحتشاد راجع الى كون المحتشدين اضاعوا قبل تجميعهم منازلهم التي أحرقت وسبل رزقهم من ماشية وادوات خدمة الأرض، وهذا ما تثبته الوثائق المرفقة بالدراسة. للتذكير، الأستاذ محمد بن سليمان خليفة من مواليد 20 ديسمبر 1938 ببني مسهل و(لاية تلمسان)، عضو في جيش التحرير، عمل في صفوف الفيالق والكتائب بالجنوب الوهراني. المؤلف هو أستاذ محاكمي لدى المحكمة العليا وإطار شغل عدة مناصب في الدولة وتفرغ بعد تقاعده للبحث العلمي، ومن أهم مؤلفاته ''انعكاسات احتلال الجزائر على الوضع الداخلي والخارجي في المغرب الأقصى''.