تصوير يونس أوباييش في هذا الحوار المثير، يتحدث رجل "المالغ" عبد الكريم حساني، عن الكثير من الملفات المثيرة التي لم يسبق الكشف عنها، مثل الجلسة الخاصة بمحاكمة عبان رمضان والأعضاء المشكلين للهيئة، وكيف تم استدراج عبان إلى المغرب. ويفكك "سي الغوثي" لغز الانقلاب الأبيض الذي قام به قائد أركان جيش التحرير، هواري بومدين، على أبيه الروحي، مؤسس المخابرات الجزائرية عبد الحفيظ بوالصوف، وخلفيات تحالف "الحية" مع بن بلة ضد الحكومة المؤقتة، ونقاط أخرى مثيرة تجدونها في هذا الحوار. الشروق: نبدأ مما أثاره أحد رجالات معركة الجزائر، ياسف سعدي، الذين عملوا إلى جانب صهركم الشهيد البطل العربي بن مهيدي، عندما خالف كل الروايات المتواترة وقال بأن بن مهيدي تمت تصفيته رميا بالرصاص وليس شنقا، ما تعليقكم؟ عبد الكريم حساني: في نهاية 1963 وقفت رفقة زوجتي، ظريفة بن مهيدي (شقيقة الشهيد) ووالي العاصمة في ذلك الوقت، السيد بلامان على جثمان الراحل، وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما رأيت جثة الشهيد وكأنها لم تمر عليها أكثر من خمس سنوات.. رأيته وكأنه نائم وآثار حبل المشنقة على رقبته. ولذلك أؤكد الرواية التي تقول بأن بن مهيدي استشهد شنقا وليس رميا بالرصاص، كما يقول ياسف سعدي. وأشير هنا إلى تأكيد الجنرال الفرنسي أوساريس بأنه هو من شنق العربي بن مهيدي، إضافة إلى شهادة الجنرال بيجار نفسه الذي قال إن الشهيد لم ينتحر، فضلا عن شهادة الكوموندو آلير عبر قناة "أر تي أو" الفرنسية الألمانية. كما تجدر الإشارة إلى ما جاء في كتاب لصحفية تعمل بجريدة لوموند الفرنسية، التي قالت إن حبل المشنقة تقطع مرتين، وقانون الحرب يقول في مثل هذه الحالة إن العربي بن مهيدي كان يجب إطلاق سراحه. الشروق: وماذا عن الروايات المتضاربة بشأن عملية اعتقاله، والمعلومات التي تتحدث عن خيانة بعض الأسماء؟ عبد الكريم حساني: هناك عدة روايات بهذا الخصوص.. أغلبها منقولة عن الصحف الفرنسية. وتقول الرواية الأولى إن الشهيد بن مهيدي تم القبض عليه في 23 فيفري 1956 بينما كان متوجها لحي ديبيسي، الذي كانت توجد به الشقة التي يختبئ فيها رجالات لجنة التنسيق والتنفيذ. ومن سوء حظه أن فرنسا قبضت على أحد الفدائيين الذي لم يتردد في التبليغ عن مكان بن مهيدي، وهو لم يكن يقصد أن الشخصية المستهدفة هو بن مهيدي نفسه. هناك الرواية الثانية التي وردت على لسان الراحل بن يوسف بن خدة التي يقول فيها إن بن مهيدي لم يقبض عليه في حي ديبيسي، الذي كانت توجد به الشقة التي يختبئ فيها رجالات لجنة التنسيق والتنفيذ، وإنما قبض عليه بينما كان متوجها إلى حي ديبيسي لمقابلته. وحسب هذه الرواية فإن الجيش الفرنسي أوقف فدائية وعذبوها وحصلوا منها على معلومات حول بن مهيدي، قبل أن يقوموا بتصفيتها. إضافة إلى رواية أخرى تقول بأن بن مهيدي قبض عليه ببذلة النوم (بيجاما) في حين أن الرواية الصحيحة هي أن بن مهيدي قبض عليه في لباس عادي. الشروق: عاش الجزائريون قبل أسابيع على وقع ما عرف بقضية جثمان الشهيد عميروش. باعتباركم أحد رجالات "المالغ"، ماذا يمكن أن تضيفوه بهذا الخصوص؟ عبد الكريم حساني: أنا أعرف بوالصوف كما أعرف بومدين، ولا يمكنني السكوت عن هذه القضية. إخفاء جثة عميروش خطأ لا يغتفر، وبالتالي أرى أنه لا بد من تبرير ما حدث، خاصة وأن هناك من المتورطين في هذه القضية من ما زال على قيد الحياة. الشروق: هل من توضيحات أكثر؟ عبد الكريم حساني: من أتى بجثمان الشهيد من بوسعادة إلى الجزائر؟ طبعا الدرك الوطني هو من أتى بالجثمان. في ذلك الوقت كان الكولونيل بن شريف هو قائد الدرك الوطني، لكن هناك من أمره بذلك ولا شك. الشروق: ومن صاحب الأمر برأيك؟ عبد الكريم حساني: رئيس الدولة ووزير الدفاع، وكما هو معروف بومدين هو من كان يشغل المنصبين. الشروق: وما الهدف من ذلك؟ عبد الكريم حساني: أعتقد أن هناك من أوحى لبومدين بأنه رمز الجزائر الوحيد، وأن إثارة قضية شهيد بطل مثل عميروش من شأنه أن يستنزف جزءا من كاريزميته. وأعتقد أن الوثائق المتعلقة بهذه القضية متوفرة على مستوى وزارة الدفاع. وأنا مستعد لكشف الحقيقة، لكن أمام جهة رسمية وبطلب رسمي. الشروق: أنتم أحد رجالات المالغ (وزارة التسليح في الحكومة المؤقتة) ولهذه الجهة مسؤولية كبيرة في تصفية عبان رمضان، هل لديكم ما تقولون باعتباركم كنتم مسؤولا عن الوثائق السرية للثورة؟ عبد الكريم حساني: عبان رمضان وعبد الحفيظ بوالصوف شخصيتان لا يلتقيان في التركيبة الثقافية والسياسية وحتى المنهجية الثورية. عبان رجل نظري نجح في ترك بصماته على الثورة بعد مؤتمر الصومام، الذي تبنى مبدئي أولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج. نظريته تقول عندما نتفق على خطة معينة فالحرب مستمرة حتى النهاية. في حين أن بوالصوف مناضل عملي ميداني وعسكري من الطراز الأول. وانطلاقا من هاتين النظرتين المتباينتين وقعت أخطاء تفسيرية، فعبان عندما تحدث عن أولوية السياسي على العسكري، فهو لم يكن يقصد إقصاء العمل العسكري، وإنما يضعه تحت قرار الفعل السياسي، بمعنى أن الجيش لا يحكم وإنما ينفذ القرارات السياسية، وليس هو من يملي كما هو معمول به في دول العالم الثالث، حيث يعتبر الجيش هو الكل في الكل. الأمر الثاني الذي يجب الإشارة إليه هو أن أولوية الداخل على الخارج لا تعني إقصاء قيادات الثورة الموجودة بالخارج وإنما يجب إعطاء الكلمة للشعب الموجود في الداخل، وبتعبير أدق لا يجب أن تحل الدبلوماسية محل ما يقرره الشعب. وفي الجانب الآخر، كان بوالصوف يرى أن كلمة قيادات الثورة بالخارج يجب أن تكون مسموعة، وأن من يتحمل عناء شراء السلاح من الخارج وإرساله إلى الداخل من حقه أن يتتبع مصير قطع الأسلحة التي تدخل البلاد، ولمن يجب أن يعطى السلاح. كما كان بوالصوف يعتقد أن أولوية الداخل على الخارج تعني من بين ما تعنيه أن من مصير من يشتري السلاح للثورة لا يجب أن تكون بيد من هم في الداخل وعبان أحدهم. وبعبارة أوضح، مصير بوالصوف وكريم وبن طوبال وغيرهم لا يجب أن يكون بيد عبان. الشروق: معلوم أن بوالصوف هو الأب الروحي لهواري بومدين، وهو الذي رعاه حتى صار إلى ما صار إليه، فكيف حدث الشقاق بين الرجلين، وإزاحة بومدين لبوالصوف من الصفوف الأمامية للثورة في أشهرها الأخيرة؟ عبد الكريم حساني: في نهاية 1956 عندما ألقى الجيش الفرنسي القبض على الباخرة أتوس، التي كانت بصدد إدخال الأسلحة للثورة في الداخل، قرر بوالصوف البحث عن استراتيجية لتمويل الثورة بالسلاح، واتفق مع بومدين على إقامة مصانع للسلاح في المغرب، ونجحت التجربة كثيرا، بحيث تم صنع أسلحة من مختلف الأحجام. وفي ذلك الوقت بدأ الحديث عن إنشاء حكومة مؤقتة للجزائر، ومنذ ذلك الوقت نشب نزاع بين الرجلين. كان بوالصوف يومها مسؤولا على الولاية التاريخية الخامسة (الغرب). ومعلوم أن هذه الولاية كانت تشكل مركز قوة الثورة، سيما بعد إنشاء بوالصوف النواة الأولى للمخابرات الجزائرية. وبعد إعلان الحكومة المؤقتة أسندت حقيبة وزارة التسليح لبوالصوف، فيما تمت ترقية هواري بومدين ليصبح قائدا لأركان جيش التحرير. عندما اندلع النزاع بين السياسيين ممثلين في الحكومة المؤقتة من جهة والعسكريين بزعامة بومدين باعتباره قائدا للأركان، أمنية بومدين كانت تتمثل في انسحاب بوالصوف من الحكومة المؤقتة ليكون دعما لموقفه، غير أن بوالصوف رفض الانسحاب من الحكومة المؤقتة. وهنا بدأ الشقاق بين أقوى رجلين في الثورة في تلك الفترة، قبل أن تستمر الهوة في الاتساع بين الرجلين حتى في استراتيجية العمل من اجل الاستقلال. فبومدين كان يرى أنه لا مفر من القوة القاهرة (العمل العسكري الخالص) من أجل طرد فرنسا، في حين كان يرى بوالصوف أن العمل بالخيارين يجب أن يستمر، سيما بعد أن أصبح للحكومة المؤقتة علاقات خارجية مع دول عظمى كالاتحاد السوفياتي سابقا والولايات المتحدةالأمريكية في عهد رئيسها جون كينيدي. الشروق: لكن كيف حدث الانقلاب، فإذا كان بومدين يملك قوة الجيش من خلال تحكمه في قيادة الأركان فبوالصوف يملك أيضا سلطة المعلومات والملفات التي وفرتها له عبقريته في مصلحة الاتصالات واللاسلكي، وهذه قوة لا يمكن الاستهانة بها؟ عبد الكريم حساني: كما نعلم ويعلم الجميع أن الجيش هو مصدر القوة في أية دولة، وأعتقد أن وجود بوالصوف وزيرا في الحكومة المؤقتة يكون قد ساهم في عزله بعض الشيء عن الجيش، كما أن إحكام بومدين قبضته على قيادة الأركان لعبت دورا في تغيير موازين القوى. الشروق: يقول بعض المطلعين على أسرار الثورة إن بوالصوف راح ضحية خيانة من طرف بعض رجالاته ومنهم أنتم (عبد الكريم حساني) ورئيس ديوانه خليفة لعروسي (والد رفيق خليفة)، وذلك من خلال تسليم وثائق الثورة السرية لبومدين، مما ساهم في تجريد بوالصوف من سلاحه، ما تعليقكم؟ عبد الكريم حساني: لقد عينت في أواخر 1960 على رأس القاعدة الوطنية، ديدوش مراد، في طرابلس، إلى جانب عدد من المساعدين، منهم نور الدين يزيد زرهوني، وقاصدي مرباح، ومحمد الصديق بن يحيى... ومعلوم أن هذه القاعدة كانت تحتوي على كل الوثائق السرية للثورة، وكانت كل الأوامر تأتيني من بوالصوف وبومدين. في بداية مفاوضات إيفيان التقيت عبد الحفيظ بوالصوف، وقلت له بأن الأمور صارت خطيرة، وأن موقفك صار ضعيفا، فأكد لي ما قلت له. وتزامن ذلك مع سقوط اسم رجل "المالغ" الأول من المجلس الوطني للثورة، إلى جانب فرحات عباس، وحل محلهما كل من أحمد بن بلة وبن يوسف بن خدة. في ذلك الوقت أرسل لي بن بلة رسالة قال فيها إن جماعة الحكومة المؤقتة خانوا الثورة وعليك أن تختار بين الوقوف إلى جانبهم أو اختيار صفي. في هذه الأثناء تم تعيين بومدين على رأس قيادة الأركان، وعلي منجلي نائبا له إلى جانب الكوموندو عز الدين. وبينما كانت الأزمة في أوجها بين بن بلة والحكومة المؤقتة، قفز بومدين إلى الواجهة وأعلن تحالفه مع بن بلة المدعوم بمجلس الثورة.. الشروق: نعود للرسالة التي وجهها إليك بن بلة وأنت على رأس قاعدة ديدوش مراد.. عبد الكريم حساني: .. قلت، قال لي بن بلة كل واحد يجب أن يتحمل مسؤوليته، يعني يجب أن تختار الصف.. بعدها بقليل التقيت بوالصوف، دعوته إلى تناول وجبة غذاء، لكنه فضل ارتشاف فنجان قهوة فقط.. دار بيننا حديث عن التغيرات التي طرأت على رأس مجلس الثورة، واعترف لي سي عبد الحفيظ بأنه فقد وزنه داخل مؤسسات الثورة لصالح بن بلة، وتمنى له التوفيق. كنت أنتظر أن يصدر منه أمر بالوقوف إلى جانبه، ولكنه بدا عليه بعض من الاستسلام للأمر الواقع. عدها تلقيت مكالمة من بوتفليقة الذي كان مساعدا لهواري بومدين في قيادة الأركان بالرباط، قال لي فيها سأرسل لك خليفة لعروسي ومعه ضابط من الولاية الثالثة التاريخية، وطلب مني الالتحاق به في وهران. أخذت كل وثائق الثورة والتحقت به هناك تحت حراسة 100 جندي. الشروق: في ماذا تتمثل هذه الوثائق؟ عبد الكريم حساني: كانت عبارة عن وسائل الاستخبار والاتصالات وكل المعلومات التي جمعت عن العدو الفرنسي وكذا المتعلقة بالثورة، مرقمة ومرتبة كما يجب، وسلمتها للجيش الوطني. الشروق: لا شك أنها وثائق سرية وعلى قدر من الأهمية، أليس كذلك؟ عبد الكريم حساني: بلى، ما أثارني فيها توثيق قضية عبان وكيف تعاملت معه الثورة. الشروق: هذه نقطة مهمة، هل يمكن أن تكشف لقراء الشروق بعضا من تفاصيلها؟ عبد الكريم حساني: هي قصة طويلة، ولكن لا بأس. تسلمت الوثائق الخاصة بقضية عبان رمضان من الراحل محمد الصديق بن يحيى، الأمين العام لمجلس الثورة، بأمر من عبد الحفيظ بوالصوف، وهي عبارة عن عرض حال، يتحدث عن اجتماع كل من بوالوصوف وكريم بلقاسم والشريف بلقاسم، وغاب عن الاجتماع لخضر بن طوبال وعباس فرحات. وجاء في عرض الحال مجموعة من الأسئلة طرحت على هيئة نصبت نفسها محكمة، السؤال الأول: هل عبان رمضان يشكل خطرا على الثورة أم لا؟ الثاني: إذا كان يشكل خطرا على الثورة، ما الوسائل الكفيلة بوضعه عند حده، الإيقاف، السجن أو الإعدام. في النهاية قررت المحكمة بالأغلبية بأن عبان رمضان يشكل خطرا وقد يتسبب في حدوث انشقاق داخل الثورة. أما الإجراء المقرر في حقه فقد تقرر إبعاده، وكلف بوالوصوف بتنفيذ القرار.بعد صدور القرار طلب بوالصوف من رجاله المقيمين بالمملكة المغربية أن يوافوه بموقف الملك المغربي محمد الخامس تجاه الثورة، فكان الرد أن الملك يريد أن يتحدث إلى أعلى سلطة في الثورة، وهنا طلب من عبان رمضان الذي كان في تونس أن يلتحق بالمغرب. ولما وصلت الرسالة لعبان حضر نفسه للسفر، غير أن شخصا اسمه ايدير كان يشغل منصب الأمين العام لوزارة الدفاع التي كانت تحت مسؤولية كريم بلقاسم، حذره من الفخ الذي يكون قد نصب له بالمغرب، فرد عبان بأنه لا يخشى المؤامرات التي تصدر من دون تفكير. وعندما وصل تيطوان المغربية كان في انتظاره الشريف بلقاسم وكريم بلقاسم وبوالصوف. طلب بوالصوف من عبان الجلوس في سيارة خاصة به، قبل أن يختفي وإلى الأبد.