تفيد المعطيات المتداولة بأن الانخفاض الكبير في معدلات الإنجاب تحول إلى مشكلة بارزة في المجتمع الجزائري في السنوات الأخيرة، وتدعو هذه الظاهرة إلى البحث عن أسباب سياسة تحديد النسل بطفلين على الأكثر، والتي تنتهجتها الأجيال الجديدة منذ العشريات الأخيرة خلافا لما كان متعارفا عليه في سنوات قبل وبعد الاستقلال، لاسيما وأن هذا الأمر يهدد بقلب الهرم السكاني للجزائريين والتحول من مجتمع فتي إلى مجتمع هرم في غضون العشريات القادمة. ربما تكون الصورة قد تغيرت كثيرا الآن عما كانت عليه الحال منذ عشرين سنة مضت، حيث أخذت صورة تلك التجمعات الأسرية بشكلها القديم الذي يضم أكثر من 8 أفراد على الأقل تتوارى، فمفهوم الأسرة نفسه اعترته الآن الكثير من التغيرات مع زيادة الانخفاض في معدلات الولادة وسط أزواج اليوم، ففيما يتعلق بالخصوبة في الجزائر التي قدرت نسبتها ب2.27 خلال السنوات الأخيرة لكل امرأة، فإن خبراء الصحة العمومية بالجزائر يحذرون من الخطر في حالة تدني النسبة إلى 2.1 لكل امرأة، وهي النسبة التي تسجل حاليا بالدول الأوروبية. وبحسب وزارة الأسرة فإن هدف الأسرة الجزائرية تبعا لما أظهره تحقيق أجري في سنة 2009 هو أن لا يتجاوز عدد الأطفال أربعة أو خمسة على الأكثر، حيث أن أكثر من 50 بالمائة من العينة لا ترغب في إنجاب أكثر من طفلين. تدهور المستوى المعيشي وانخفاض مستوى الأجور وأزمة السكن ولدت الخوف من المستقبل والخوف على مصير الأجيال الصاعدة... هي أسباب جعلت العديد من الأفراد الجزائريين يتبنون فكرة إنجاب طفلين على الأكثر، كانت هذه من أبرز النقاط التي اتفق عليها بعض محدثي ''المساء'' من آباء اليوم وآباء المستقبل القريب. التربية الجيدة مرهونة بالجانبين الاجتماعي والاقتصادي زتراجع المستوى المعيشي بالنسبة لعموم الجزائريين جعل نظرة أجيال اليوم للإنجاب مغايرة إلى تلك التي كانت سائدة فيما مضى، بحيث أصبحت ترفض إنجاب أكثر من طفلين على أقصى حد، لأسباب وإن اختلفت فهي ترتبط بالأساس بالجانبين الاقتصادي والاجتماعي في نظري''، يجيب المواطن ''سامي'' الذي تزوج حديثا. ويواصل ليوضح: ''لنفس الأسباب أفكر أنا شخصيا في تحديد النسل بطفلين، لأن التربية الجيدة بنظري مرهونة بتوفير شروط العيش الملائمة، فالتنشئة الاجتماعية صارت صعبة في الوقت الراهن بسبب الظروف غير الملائمة وظهور عدة وسائط تكنولوجية وبعض العوامل الاجتماعية، منها ما يتعلق بتدني المستوى التعليمي.. هذه الأمور أدت إلى تغير النظرة إلى نمط الحياة عموما وصارت تتطلب خفض الولادات والسير على مبدإ تباعدها لتحصيل القدر الكافي من الوقت لإشباع حاجيات الطفل النفسية والعاطفية والتعليمية وكذا التربوية، خاصة وأن الشارع صار مصدرا لتعلم الأفعال السيئة في تراجع ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر''. لكل زمن خصوصيات يقول السيد ''مصطفى'' 42 سنة (أب لطفلين): ''فعلا عرف معدل الإنجاب في المجتمع الجزائري تراجعا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، مقارنة مع سنوات الستينيات والثمانينات من القرن الماضي، وكذا سنوات الحقبة الاستعمارية التي مرت بها الجزائر... إذ كانت الأسر تفكر بإنجاب أكبر قدر ممكن، باعتبار أن الموت كان بالمرصاد للعديد من أبناء الشعب في زمن القهر، وبالتالي مواجهة خطر انقراض الأسر، وقد استمر معدل الإنجاب على نفس الوتيرة بعد الاستقلال بحكم العادات والتقاليد، لكن عدة متغيرات سرعان ما ظهرت في العشريات الأخيرة لتغير الواقع الديمغرافي في الجزائر، منها ما يتعلق بالظروف المادية الصعبة ومنها ما يرتبط بالجو الإعلامي والطبي السائد والذي يكرس فكرة خطورة الإنجاب ما بعد سن الخامسة والثلاثين.'' الخوف من الانفلات التربوي السيدة ''سعيدة. ل'' خبيرة حقوقية، وهي أم لطفلين، لا تفكر من جهتها في خوض غمار تجربة الحمل مجددا، لاسيما وأن القيصرية أصبحت بالمرصاد لامرأة العصر، غير أن هذا ليس الدافع الوحيد إلى عدم إنجاب أكثر من طفلين.. تقول: ''إن التنشئة الاجتماعية لم تعد سهلة على الإطلاق في وقتنا الحالي بسبب التدهور الأخلاقي الذي بدأ يشق طريقه نحو المجتمع الجزائري، فضلا عن وجود عدة وسائط فرضها التطور التكنولوجي على غرار الأنترنت والفضائيات التي تتدخل هي الأخرى في عملية التربية، وتصعب في نفس الوقت عملية المراقبة، ومن ناحية أخرى فإن تدهور المستوى المعيشي سبب آخر جعلني أنزع فكرة تكوين عائلة ''متوسطة'' من تفكيري لتحل محلها فكرة تكوين عائلة ''صغيرة''، لأن تلبية احتياجات الطفل من غذاء صحي وتعليم وترفيه وغيرها لا يمكن أن تعتمد على أجر زهيد''. وبرأي السيدة ''سعيدة'' فإن امرأة العصر ليس بمقدورها أن تنجب 8 أو 10 أطفال على طريقة الجدات، كونها تتعب كثيرا بسبب العمل في الخارج، ولذلك فإن كثرة الأطفال ستجعلها حتما فريسة للتوتر العالي لأنه ليس من السهل رعايتهم في ظل تضاعف المسؤوليات، كما أنه ليس من السهل العثور على حاضنة مناسبة لكل طفل''. في نفس الإطار ارتأت ''المساء'' أن تستطلع آراء بعض أمهات المستقبل، فكان السؤال موجها لكل من ''فاطمة الزهراء''، و''لمياء'' و''عائشة'' (ثلاث طالبات يدرسن تخصص علم النفس المدرسي بجامعة الجزائر)، حيث اتفقن على أنهن لا يفكرن في إنجاب أكثر من طفلين أو ثلاثة لاعتبارات صحية وأخرى مادية حتى لا يكررن سيناريو الأزواج الذين غامروا بإنجاب عدد كبير من الأبناء، فكانت معيشتهم قاسية بسبب تدني الدخل الشهري وأزمة السكن. ومما لاشك فيه هو أن هذا التوجه الجديد في وسط أزواج اليوم ستكون له الكثير من الانعكاسات على المجتمع الجزائري سواء على المدى القصير أو المدى الطويل.. ومن ضمن الانعكاسات التي برزت على المدى القصير على حد قول المواطن ''عادل''، مثقف، هو الاضطرار في بعض المناطق النائية إلى غلق المدارس الابتدائية في انعدام توافد الأطفال بسبب قلة الإنجاب، في الوقت التي تبقى عدة ابتدائيات أخرى مهددة بنفس المصير في السنوات القادمة. تأخر بناء الأسرة الجزائرية وعن أسباب هذا التراجع، ترى أستاذة علم النفس بجامعة الجزائر آيت حمودة، أنه يرتبط بعدة متغيرات، لكنه في المقابل لا يمكن تحديد العامل الرئيسي في غياب دراسات تسلط الضوء حول الظاهرة. ويبدو ظاهريا - بحسب الأستاذة الجامعية - أن هناك ثلاثة عوامل بارزة ترتبط بخروج المرأة إلى العمل، الأمر الذي قلص لديها فرص الإنجاب، في تضاعف حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها، خاصة وأن الرجل في المجتمع الجزائري لا يقدم غالبا يد المساعدة لإعانة الزوجة في إنجاز الواجبات المنزلية ومساعدتها في تربية الأبناء بحكم التنشئة الاجتماعية التقليدية، ويضاف إلى ذلك تأثيرات العامل الاقتصادي التي تتجلى في ضعف قدرة الشرائية للمواطنين عامة، ما جعل العديد من الأسر الجديدة تكتفي بمولود واحد أو اثنين، خاصة أحادية الدخل منها. وتضيف الأستاذة آيت حمودة أن هناك عاملا آخر يتمثل في تأخر بناء الأسرة الجزائرية في السنوات الأخيرة بسبب الظروف المعيشية الصعبة، حيث لا يمكن لامرأة اليوم أن تنجب الكثير مثلما كان الحال سابقا في زمن الجدات اللواتي كن ماكثات بالبيت ويتزوجن في سن يقل عن 16 سنة. النزوع نحو خفض الولادات وليد التحولات وبحسب دراسة سوسيولوجية بعنوان ''واقع الأسرة الجزائرية'' لكل من الدكتورين محمد بومخلوف ومحمد رؤوف القاسمي حسني والأساتذة مختار جعيجع، حورية سعدو وبوزيد صحراوي فقد تميز التحضر الحديث الذي عرفته الجزائر بمجموعة من الخصائص ورافقته عدة مشكلات، ويلاحظ كل ذلك في أشكال تكيف الأسرة المتحضرة والتعديلات التي تجريها على سلوكها وعلاقاتها في سبيل المحافظة على توازنها واستمرارها في ظل مرحلة التحول هذه بسبب ما يصاحبها من ضغوط اجتماعية ثقافية واقتصادية وبيئية. وورد في الدراسة أن حجم الأسرة الجزائرية يتجه عموما نحو الانخفاض، حيث تمثل الأسر التي لا يزيد عدد أفرادها على ستة أفراد الأغلبية (بنسبة 15,59 بالمائة بحسب نتائج الدراسة)، ويرجع هذا إلى وجود توجه واضح نحو تخفيض الولادات، حيث أن هذه الفئة من الأسر يتراوح عدد أبنائها من واحد إلى أربعة أبناء فقط، كما أوضحت الدراسة أن الأسر الحضرية أكثر نزوعا نحو خفض الولادات من الأسر الريفية، وقد يعود هذا التوجه إلى عوامل كثيرة أهمها خروج المرأة للعمل المأجور بالنسبة للأسر الحضرية، وارتفاع المستوى التعليمي عموما لدى الأسر، إضافة إلى انتشار الثقافة الصحية الأسرية والأفكار المتعلقة بتنظيم الأسرة من خلال التعليم ووسائل الإعلام والاتصال وبالأخص توفر المراكز الصحية.