كم أصبح صعبا دخول قاعة تحرير جريدة ''المساء''، واختراق الصمت المريب الذي خيم عليها، وكأن خبر وفاتك يسقط علينا كل يوم..فكم من يوم سنحتاج إليه حتى نتجاوز الصدمة، الأكيد أنها ستكون كثيرة، لأنك يا أخي الصغير كنت إنسانا متميزا تختلف عن الكثير من الناس، وخاصة في عالم بدا يفتقد إلى القيم الإنسانية النبيلة من مثل ما كنت تحمله في قلبك. افتقدناك يا علي وسنفتقد روحك المرحة وحيويتك الدائمة التي كانت تملأ كل مكان تحل به، وأنا أبكيك الآن يحضرني اجتهادك في حمل أحزاني ومسح دموعي عندما فقدت زوجتي ''فضيلة'' قبل أشهر قليلة، وقد كنت أنت من بين الذين صدموا لوفاتها خاصة وأن فراقها جاء بعد شهر فقط من حضورنا لعرس زفافك في ''فناية الماتن'' ببجاية.، فظلت تقول لي دوما ''إني أشعر بالخجل أمامك يا ''بي بي'' وأنا عاجز عن إعادة البسمة إلى وجهك ..''ثم تبرر ذلك بقولك ''لأنني أفهم بأن الأمر أكثر من صعب علينا فكيف يكون عليك''.... وإني أسمعك اليوم يا علي وأنت تجتهد كالعادة لكي تمسح دموعي وتواسيني في فقدانك، فتقول ''هل تذكر يا ''بي بي'' يوم دخلنا سويا إلى جريدة المساء في 18 سبتمبر ,2000 لقد كنا كغريبين جاءا ليكتشفا عالم الإعلام العمومي''، وأحيانا أخرى تسألنا ''هل تذكر يا ''بي بي'' عندما كنا نلف الورق لنصنع منه كرة ونلعب بها بالرأس داخل قاعة التحرير في القبة، فنحدث الفوضى ثم نتظاهر بأنا بريئين مما وقع..'' لقد كنت تلقي علي هذين السؤالين دائما، لتساعدني على تجاوز بعض المشاكل الظرفية، وتذكرني بأن الدنيا مهما ضاقت علينا تبقى تحتفظ لنا بذكريات جميلة لا تنسى. نعم يا أخي الصغير لم يجمعنا في هذه الدنيا المشؤومة سوى الأيام الجميلة، ومنها ذلك اليوم الذي أطلقت علي اسمي ''محبوب'' و''بي بي''، عندما فتحنا لأول مرة رسائل الكترونية شخصية على الانترنيت. في البداية أخطأت في قراءة عنواني الشخصي ''موح بي بي'' فنطقته بعفويتك المعتادة ''محبوب'' ثم وبعد أن مللت من تصحيحي لك الخطأ قررت أن تسميني ''بي بي''، وهو اسم صرت أفرح لسماعه منك خاصة وانه لم يشاركك فيه إلا زوجتي المرحومة ''فضيلة''. تماما مثلما اشتركتما في الطيبة والحنان والسخاء وحب الخير والناس والسعي دوما إلى كسب ودهم ومحبتهم... لا زلت أذكر يا أخي الصغير رحلتنا إلى ''فناية الماتن'' قريتك الجميلة الشامخة بأعالي الصومام ونحن في موكب عرس متجه إلى موعد خاص نظمته أنت وأسرتك الطيبة للاحباب والزملاء فقط، وذلك قبل الموعد الرسمي لزفافك بيومين، يومها لم تسع الدنيا فرحتك وأنت تتمايل داخل السيارة وترقص على طول المسافة، وتتجاوب مع تصفيقاتنا وتشجيعنا لك، سيبقى ذلك اليوم من أجمل أيامنا جميعا. أحببت فيك إلى جانب أخلاقك الحميدة، جرأتك المتميزة التي شكلت سر نجاحك المهني، حيث لم تكن تتراجع أمام أي شئ عندما يتعلق الأمر بالحصول على المعلومة، كما كانت تلك الجرأة ميزة تعاملك مع الغير مهما كانت مستوياتهم في حياتك اليومية، وكانت صفتك هذه كثيرا ما تزعج البعض، لكنك كنت ترفض أن تغير طبعك لأنك فطرت عليه ولأنك من معدن لا يحول.. بدأنا العمل في جريدة ''المساء'' في يوم واحد وبقينا متلازمين منذ ذلك الحين كالأخوين، تستشيرني في كل الأمور، وتطلب رأيي في كل المسائل حتى في مساعدتك على اختيار الحذاء أو القميص الذي تريد شراءه، وإني لأشهد بأنك لم تكن أبدا ناكرا للجميل حتى ولو كان هذا الجميل مجرد نصيحة ورأي، وكنت تكلف نفسك عناء الاتصال بأصدقائك لمجرد التعبير عن الشكر أو العرفان مقابل نصيحة بسيطة تم إسداؤها لك. كما ظل يعجبني فيك صونك لأمانة السلام التي كنت تحمل إياها، بل كنت تعتز بحملها، وتوصلها بأسلوب التشويق الذي امتزت به، فتقول بعد أن تدخل قاعة التحرير وتلقي السلام، '' يا ''بي بي'' هل تعلم من يسلم عليك اليوم.... ثم تجرني في رحلة البحث عن اسم هذا الزميل أو تلك الزميلة على طريقة فك الألغاز''. أما السبب الكامن في حبك لإيصال السلام إلى الغير، فهو لا يخرج عن نطاق تمجيدك للصداقة ومعانيها. مع رحيلك يا أخي الصغير تغير طعم أيامنا ولونها، وأنت الذي كنت تضفي عليها نكهة خاصة بروح التنكيت والمزاح الذي تميزت به، ولم يكن يمنعك من التحلي بالجدية والصرامة الشديدتين عندما تغرق في كتابة مقالاتك، بأسلوب فيه الكثير من الإتقان والتفاني، ثم تسألني إن كان عدد الكلمات الذي كتبتها مناسبا وكافيا لمقالك، أو تطلب مني مراجعته لك أو على الأقل مقدمته، فكنت أقول لك دوما ''هل تعرف يا علي أن الفرق بيننا يكمن في شدة حب المهنة''، فقد تفوقت علي وعلى الكثير من الزملاء في عشقك للصحافة، حتى انك أكدت لي مرارا بأنك لا تتصور نفسك تعمل عملا آخر خارج إطار مهنة المتاعب. سأفتقدك يا عليلو وافتقد فيك من كان ينبهني إلى أوان مواعيد الصلاة، ومرافقتي إلى مسجد ابن باديس حيث كنا نغتنم المسافة التي نقطعها بينه ومقر الجريدة، لنتبادل القصص والأخبار اليومية، ولتضعني أنت في الصورة بخصوص مستجدات الحياة السياسية في البلد والتي كانت من اختصاصك. لقد منّ الله عليك بخاتمة عطرة حيث غمر أيامك الأخيرة العمل الصالح والحرص الشديد على الاستقامة، ومعه حرص آخر على حل مشكل وقع فيه احد زملائنا في الفترة الأخيرة، لكنك رحلت عنا دون سابق إنذار، وفي رحلة لم تكن مبرمجة لذلك اليوم، فكانت رحلتك الأخيرة، إحسانا إلى والدتك التي حرصت على مرافقتها إلى الطبيب صبيحة الخميس، غير أن القادر شاء لها أن تنتهي في محطة توسطت أسرتيك، أسرة إعلامية في العاصمة رحلت عنها دون وداع وأسرتك الصغيرة الطيبة التي لم تصلها لتلقي عليها آخر سلام. وقد كان آخر حديثي معك أن طلبت منك، وأنا أهم بمغادرة مقر الجريدة بأن توصل سلامي كالعادة لأهلك وبخاصة لوالدتك ''نا وريدة''، فقلت لك بالامازيعية '' عليلو، تسليم فلاسن..'' وأجبتني بأن سلامي سيبلغ، لكنك لم تقل لي بأنه لن يبلغ لأهلك في بجاية وإنما إلى أهلنا الذين خطفتهم الموت عنا، ومنهم زوجتي ''فضيلة'' والزملاء الذين افتقدناهم من قبلك ''عثمان'' و ''شوقي'' و'' توفيق'' و''غنية'' و''ليليا'' و''حميدة'' و''مراد'' و''فضيلة نجمة'' و''عادل'' وغيرهم من الذين رحلوا عن عالم المتاعب وانتقلوا إلى رحمة العلي القدير، الذي له ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده لأجل مسمى، وما علينا نحن سوى أن نصبر ونحتسب وندعوه بأن يرحمكم جميعا ويرحمنا عندما نصير إلى ما صرتم إليه..